عدّ الذهبي فيما تقدم من كلامه في الكذب الثالث من جهل الرفضة على الحجة بن الحسن من انه حي يعلم علم الاولين و الآخرين.
فنقول: إذا ثبت كون الحجة بن الحسن هو المهدي الموعود فلا بدّ من ثبوت هذا المقام له حسب الأحاديث التي رواها مشايخ أهل السنة فضلا عما رواه مشايخهم فيه و طرق إثباته له من أحاديثهم كثيرة نقتصر منها على طريقين:
(الأوّل): إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان عنده علوم القرآن ظاهره و باطنه و تأويله و حقائقه و لطائفه و اشاراته و غيرها، و في القرآن المجيد علم الأولين و الآخرين و قد ورث المهدي عليه السلام علم جده صلى الله عليه و آله و سلم و رزقه الله فهمه فهو يعلم علم الأولين و الآخرين و هذه ثلاث مقدمات.

أما الأولى: فهي ضرورية لا أظن أحداً من المسلمين ينكرها.
و أما الثانية: فكذلك لقوله تعالى: (وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) و قال: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ) و قال: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ).
و قال الحافظ السيوطي في “الاتقان” أخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين و الآخرين.
و أخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: ستكون فتن. قيل: و ما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم.
و أخرج البيهقي عن الحسن قال: أنزل الله مائة و أربعة كتب أودع علومها أربعة منها التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان.
و قال الإمام الشافعي جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة و جميع السنة شرح للقرآن.
و قال أيضاً: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه و آله و سلم فهو من القرآن.
قال: و قال القاضي أبو بكر بن العربي في “قانون التأويل” علوم القرآن خمسون علماً و أربعمائة علم و سبعة آلاف علم و سبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة اذ لكل كلمة ظهر و بطن وحد و مطلع و هذا مطلق دون اعتبار تركيب و ما بينهما و هذا ما لا يحصى و لا يعلمه إلا الله _ انتهى.
و هذه المقدمة كالأولى في الوضوح.
و أما الثالثة: فقد أخرج الطبراني في معجمه و السيوطي في “جمع الجوامع” و علي المتقي في “كنز العمال” و السيد علي الهمداني في “مودة القربى” و “روضة الفردوس” و المحب الطبري في “ذخائر العقبى” و غيرهم انه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من سره أن يحيي حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال علياً من بعدي و ليوال وليه و ليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهمي و علمي فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي.
و المهدي عليه السلام باتفاق الأمة داخل في أهل بيته المخصوصين الذين فضلوا كتاباً و سنة بفضائل خاصة تقدم بعضها.
و أخرج ابن ماجة في سننه و أبو نعيم الحافظ في “مناقب المهدي” و الطبراني في “المعجم الكبير” بأسانيدهم عن محمّد بن الحنفية عن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة.
و أخرج الحافظ الكنجي في “البيان” مسنداً عن سفيان بن عيينة، عن عاصم ابن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي.
قال: و جمع الحافظ أبو نعيم طرق هذا الحديث عن جم غفير و قد مر في جملة من الروايات أيضاً فإذا رزق المهدي علم جده صلى الله عليه و آله و سلم و فهمه فقد حاز علم الأولين و الآخرين و ذلك ما أردناه.
(الثاني): ان الشيخين أبا بكر و عمر عند أهل السنة معدودان من الأقطاب و القطب يعلم علم الأولين و الآخرين، و المهدي عليه السلام أفضل منهما أو مثلهما عند أهل السنة فيكون كذلك.
أما المقدمة الأولى: فقال الشعراني في “اليواقيت” في الباب الخامس و الأربعين: ثم اعلم انه لما كان نصب الإمام واجباً لإقامة الدين وجب أن يكون واحداً لئلا يقع التنازع و التضاد و الفساد فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب (قال) و قد يكون من ظهر من الأئمة بالسيف أيضاً قطب الوقت كأبي بكر و عمر في وقته، و قد لا يكون قطب الوقت فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل و يكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن من حيث لا يشعر فإن الجور و العد ليقع من أئمة الظاهر و لا يكون القطب إلا عادلا. انتهى.
و قال الشيخ محیي الدين في الباب الثالث و الستين و أربعمائة: ان كل قطب يمكث في العالم الذي هو فيه على حسب ما قدر الله عز و جل ثم تنسخ دعوته بدعوة أخرى كما تنسخ الشرائع بالشرائع و أعنى بالدعوة ما لذلك القطب من الحكم و التأثير في العالم فمن الأقطاب من يمكث في قطبيته الثلاث و الثلاثين سنة و أربعة أشهر و منهم من يمكث فيها ثلاث سنين و منهم كما يؤيد ذلك مدة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و علي فإنهم كانوا أقطاباً بلا شك. انتهى.
و صرح بذلك في مواضع متعددة.
و أما الثانية: ففي المبحث المذكور من “اليواقيت” فإن قلت: فما علامة القطب فإن جماعة في عصرنا قد ادعوا القطبية و ليس معنا علم يرد دعواهم.
فالجواب: قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ان للقطب خمس عشرة علامة. و قد ذكرناها فيما تقدم و عد منها ما في قوله و يكشف له عن حقيقة الذات و احاطة الصفات و منها علم الاحاطة بكل علم و معلوم و ما بدا من السر الأوّل إلى منتهاه ثم يعود إليه.
و ما ادعاه الإمامية في حق المهدي عليه السلام دون هذا بمرات و لا يقولون بكشف حقيقة ذاته سبحانه لأحد بل هو معدود عندهم من الممتنعات و من كشف له عن حقيقة الذات فلا يتصور له الجهل بشيء أبداً.
و أما الثالثة: فهي أيضاً ظاهر من مطاوي أحاديثهم و كلماتهم.
ففي “عقد الدرر” لأبي بدر السلمي عن عوف بن محمّد قال: كنا نتحدث انه يكون في هذه الأمة خليفة لا يفضل عليه أبو بكر و عمر.
و أخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن عن محمّد بن سيرين و ذكر فتنة تكون، فقال: إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتّى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر و عمر. قيل: خير من أبي بكر و عمر؟ قال: قد كان يفضل على بعض الأنبياء.
و فيه أيضاً انه سئل ابن سيرين المهدي خير منها أي أبي بكر و عمر قال: هو خير منهما.
و أخرج الحافظ الكنجي في كتاب “البيان” باسناده عن أبي نعيم أحمد ابن عبد الله الحافظ، حدثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر، حدثنا ابو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا المحاربي، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن أبي زرعة الشيباني، عن عمرو احضرمي، عن أبي أمامة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و ذكر الدجال و قال فيه: إن المدينة لتنفي خبثها كما تنفي الكير خبث الحديد و يدعى ذلك اليوم يوم الخلاص. فقالت أم شريك: فأين العرب يا رسول الله يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل و جلهم ببيت المقدس و امامهم مهدي رجل صالح، فبينا امامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح اذ نزل عيسى بن مريم حين كبر للصبح فرجع ذلك الإمام ينكص ليتقدم عيسى يصلي بالناس فيضع عيسى يده بين كتفيه فيقول: تقدّم فصل فإنّها لك أقيمت فيصلي بهم.
قلت: هذا حديث حسن، هكذا رواه الحافظ أبو نعيم صاحب حلية الأولياء و ظاهر الحديث أن عيسى يصلّي معه.
و قال الشيخ في الفتوحات: و اعلم أنه لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نص على أحد من الأئمّة بعده يقفو أثره لا يخطىء إلا المهدي خاصة قد شهد له بعصمته في خلافته و أحكامه كما شهر الدليل العقلي بعصمة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيما يبلغه من ربه من الحكم المشروع له في عباده.
و قال أيضاً: انه _ يعني المهدي _ يحكم بما يلقى ملك الالهام من الشريعة و ذلك انه يلهمه الشرع المحمدي فيحكم به كما أشار إليه حديث المهدي انه يقفو أثري لا يخطى، فعرفنا انه متبع لا مبتدع و انه معصوم في حكمه اذ لا معنى للمعصوم في الحكم إلا انه لا يخطىء و حكم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا يخطىء فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى و قد أخبر عن المهدي انه لا يخطىء و جعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم. انتهى.
و يشهد له أيضاً نداء الملك فوق رأسه هذا المهدي خليفة الله و غير ذلك مما موجود فی الکتاب و الآثار المشایخ و تصريح جمع بقطبيته فلا مجال لاستغراب كونه عالماً بعلم الأولين و الآخرين و عدّه من الجهالات بل منكره إمّا جاهل بالسنة و كلمات المشايخ أو جاحد بعد العلم.
فنسأل الله تعاى أن يفتح عين بصيرتنا و يخلص ايماننا عن شوائب الاهواء و حب الرياسة في الدنيا.
الثاني: إن هذه المطالب التي ادعی بعض علماء العامة مما تتعلق بولادة المهدي و غيبته من المطالب القديمة التي طال ما تشاجر فيها علماء الفريقين مذكورة في مؤلفاتهم بل ألف فيها بالانفراد رسائل عديدة و صارت سبباً لزيادة البغضاء و تجري الجهلاء و تفرق الكلمة و شق العصا و كثرة الغوغاء و ظهور الفساد و تخريب البلاد إلى أن وصلت نوبة الرئاسة الكبرى إلى السلطان الأعظم و الخاقان الأفخم حارس ثغور المسلمين من هجوم أعداء الملة و الدين خادم الحرمين الشريفين السلطان الغازي عبد الحميد خان … فرأى إن راحة العباد و عمارة البلاد في عدم تعرض أهل كل طريقة لغيره و تشبث كل طائفة بمذهبه حتى تتفق الكلمة الإسلامية و تعلو الملة المحمدية كما قال تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) و قال: (وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ) و هذه السنة السنية و الطريقة المرضية جرت في الممالك المحروسة و ما جاورها من بلاد الإسلام فصار الناس في مهاد الأمن و الأمان و الطمأنينة من طوارق الحدثان.
و لكن حدث في بعض الأيام بعض الحوادث من علماء دار السلام، فصنف بعضهم رسالة فيها بعض المطالب المثيرة للفتن اخذاً من كتاب التحفة الاثنا عشرية للمولوي عبد العزيز شاه الدهلوي الذي هو ترجمة كتاب الصواعق لملا نصر الله الكابلي و تعرض لرده علماء الإمامية بالهند في أزيد من أربعين مجلداً و أودع فيها مناكير توجب تجديد العداوة و اختلاف الكلمة و ظنّ أنها مطالب جديدة عثر عليها فطبعها و نشرها، و لولا خوف زيادة الاختلاف لتعرض معاصروه لتوضيح هفواتها، ثم أردفها الناظم بهذه القصيدة الي هجا فيها الإمامية بألطف عبارة مع انك قد عرفت أن القول بولادة المهدي عليه السلام و انه الحجة بن الحسن عليهما السلام لا ينافي الأخذ بمذهب أهل السنة و الجماعة و لذا قال به جماعة من أعيان علمائهم فلا شناعة توجب الذم و الاستهزاء و هذا يوهم أن يكون المقصد الأصلي إثارة الفتنة و الغوغاء و تطميع الأعداء نعوذ بالله تعالى من سوء السريرة و احتقار هذه الموبقة الكبيرة.

(راجع کشف الاستار عن وجه الغائب عن الابصار؛ الشیخ میرزا حسين النوري الطبرسي)