إظهار المحبة الباطنية:
إعلم أن الحب وإن كان أمرا خفيا قلبيا وشيئا كامنا باطنيا، لكن له آثار ظاهرة، وفروع متكاثرة، فهو كشجرة أغصان ولكل غصن من الورد أفنان، فبعض آثاره يظهر في اللسان، وبعض في سائر جوارح الإنسان فكما لا يمكن منع الشجر عن إبراز أزهاره، لا يمكن منع ذي الحب عن ظهور آثاره. ولنعم ما قال بعض أهل الحال.
إذا هممت بكتمان الهوى نطقت * مدامعي بالذي أخفي من الألم
فإن أبح أفتضح من غير منفعة * وإن كتمت فدمعي غير منكتم
لكن إلى الله أشكو ما أكابده * من طول وجد ودمع غير منصرم
فكما أنه كلما ازداد الشجر نموا ازداد إزهاره كذلك كلما ازداد الحب قوة ازداد آثاره فمن آثاره في العين إسبال الدموع وهجران الهجوع. وقد قال بعض أهل الإشتياق، في آثار حال الفراق:
ولو أن عينا في الفراق بكت دما * لرأيت في عيني دما لا يجمد
ومن قصيدة لأبي العباس المبرد صدره يناسب هذا المقال:
بكيت حتى بكى من رحمتي الطلل * ومن بكائي بكت أعدائي إذ رحلوا
ومن آثار الحب في اللسان ذكر المحبوب في كل مكان وزمان، بكل بيان وبأي عنوان وحسبك شاهدا في التبيان، وناطقا بالبرهان قول الخالق المنان، في الحديث القدسي لموسى بن عمران (ذكري حسن على كل حال). أقول: وهذا حال أهل الحال والاقبال، وقد قال الله عز وجل في أحسن الأقوال في التصريح بهذا المقال: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم.
أقول: وهذا من آثار كمال الشوق إلى محبوبهم، ومن الآثار اللسانية أيضا ذكر فضائل المحبوب ومحاسنه، بكل نحو مطلوب، ولهذا ورد في فضل إنشاء الأشعار في مدح الأئمة الأطهار عدة من الأخبار، ونذكر هنا حديثا واحدا من تلك الأخبار، وفيه كفاية لأهل الاعتبار.. – وهو ما روي في الوسائل والبحار عن ثامن الأئمة الأبرار صلوات الله عليهم، ما دام الليل والنهار، أنه قال: ما قال فينا مؤمن شعرا يمدحنا به إلا بنى الله تعالى له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات، يزوره فيها كل ملك مقرب وكل نبي مرسل.
ومن الآثار اللسانية أيضا الدعاء للمحبوب بكل شئ مطلوب، وهذا من جبليات ذوي العقول، ولا ينكره إلا جهول.
ويدل على رجحان إظهار الحب باللسان، بل كونه من جملة الأركان، جعله ثاني أركان الإيمان، مع أن حقيقة الإيمان هو الإذعان، وهو أمر خفي في الجنان، كما دل عليه القرآن قال الله عز وجل: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *
وقال سبحانه: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) *
فالإيمان في الحقيقة ليس إلا حب الله وحب رسوله وحب وليه. ومع ذلك لا تترتب آثار ما في الجنان إلا بإظهاره باللسان. فتحصل من هذا البيان، أن الدعاء لفرج مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه كاشف عن حقيقة الإيمان، وهذا واضح عند أهل الإيقان. ويدل عليه أيضا ما ذكرناه في فضل مدح الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، بإنشاء الأشعار وكذا ما ورد في فضل ذكر فضائلهم للعباد، فإنه إظهار للحب المكنون في الفؤاد. ويدل عليه أيضا، ما ورد في فضيلة حب أمير المؤمنين (عليه السلام) باللسان، فإن المراد به إظهار الحب القلبي باللسان بكل بيان وبأي عنوان، ولا ريب في كون الدعاء بتعجيل فرج صاحب الزمان من المصاديق القطعية لهذا العنوان. ولنعم ما قاله بعض أهل العرفان فيما يناسب هذا العنوان:
عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
المراد أنه واحد الخلائق في جهات الحسن لا قصر جهات حسنه على جهة واحدة فافهم واغتنم هذه الفائدة.
ويدل أيضا على فضل إظهار الحب باللسان، ما ورد في آداب معاشرة الإخوان.
– ففي الكافي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لهشام بن سالم: إذا أحببت رجلا فأخبره بذلك، فإنه أثبت للمودة بينكما.
– وفيه في حديث آخر صحيح باصطلاح القدماء، عن نصر بن قابوس الجليل رضي الله تعالى عنه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا أحببت أحدا من إخوانك فأعلمه ذلك، فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) *.
قال المجلسي (ره) في مرآة العقول في شرح الحديث وهذا ينطبق أشد انطباق على ما روي في العيون في تفسير الآية: أن المراد بها ليطمئن قلبي على الخلة. فارجع إليه تفهم. أقول: المراد بالإعلام كلما دل على حبك لأخيك من أهل الإسلام، لا خصوص إخبارك إياه بهذا المرام ويشهد لذلك أن إبراهيم (عليه السلام) جعل إجابة دعوته علامة خلة الملك العلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، فالاهتمام في الدعاء بتعجيل فرج الإمام إظهار لحبك له على النحو التام وهو يوجب شدة حبه لك من بين الأنام، بل يوجب حب آبائه الكرام. فإن الدعاء له إظهار للحب بجميعهم (عليهم السلام) فيكون باعثا لثبات حبهم لك، بمقتضى الصحيح السابق المروي عن الصادق (عليه السلام).
ولو لم يكن غير هذه المكرمة في هذا المقام لكفى في مراتب الفضل والإنعام.
(مکیال المکارم؛ ج 1 محمد تقی الموسوی الاصفهانی)
أحدث وجهات النظر