مكرمة شريفة، وعناية لطيفة محتوية على مكرمتين جليلتين:
إحداهما: كون الدعاء بتعجيل ظهور مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) وفرجه من مصاديق تحمل الصعب المستصعب، من أحاديث الأئمة الأطهار الهداة الأبرار.
والثانية: كونه سببا لتحمل سائر أحاديثهم الصعبة المستصعبة، وأسرارهم الخشنة المستوعرة وهذا مقام منيع، وشأن رفيع، يتبين بعض مراتبه بما سنذكره لطالبه، وتحقيق الكلام في تقريب هذا المرام موكول إلى رسم فوائد في كل منها مواهب وعوائد.

الأولى: في ذكر بعض ما ورد من أن حديثهم صعب مستصعب.
– ففي أصول الكافي بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله: إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فما ورد عليكم من حديث آل محمد فلانت له قلوبكم، وعرفتموه، فاقبلوه، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشئ منه لا يحتمله فيقول: والله ما كان هذا والله ما كان هذا، والإنكار هو الكفر.
– وفيه بإسناد مرفوع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حديثنا صعب مستصعب لا تحتمله إلا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة، إن الله أخذ من شيعتنا الميثاق، كما أخذ على بني آدم * (ألست بربكم) * فمن وفى لنا وفى الله له بالجنة ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا ففي النار خالدا مخلدا.
– وفيه: عن الصادق عن زين العابدين (عليه السلام) قال: إن علم العلماء صعب مستصعب لا يحتمله إلا نبي مرسل، أو ملك مقرب، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، ورواها الصفار في بصائر الدرجات الخبر.
– وفي بصائر الدرجات أيضا بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن أو مدينة حصينة، فإذا وقع أمرنا وجاء مهدينا كان الرجل من شيعتنا أجرأ من ليث، وأمضى من سنان يطأ عدونا برجليه، ويضربه بكفيه، وذلك عند نزول رحمة الله وفرجه على العباد.
– وبإسناد آخر عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول: إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ثلاث نبي مرسل، أو ملك مقرب، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. ثم قال: يا أبا حمزة ألا ترى أنه اختار لأمرنا من الملائكة المقربين ومن النبيين المرسلين، ومن المؤمنين الممتحنين.
– وبإسناد آخر عنه (عليه السلام) قال: إن حديث آل محمد (صلى الله عليه وآله) صعب مستصعب، ثقيل، مقنع، أجرد ذكوان لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، أو مدينة حصينة، فإذا قام قائمنا نطق، وصدقه القرآن.
– وبإسناد آخر عنه (عليه السلام) قال: حديثنا صعب مستصعب، لا يؤمن به إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فما عرفت قلوبكم فخذوه، وما أنكرت فردوه إلينا. وبإسناد آخر عنه مثله.
– وبإسناده عن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
– وبإسناده عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: سمعت أبا عبد الله يقول: حديثنا صعب مستصعب. قال: قلت: فسر لي جعلت فداك قال: ذكوان ذكي أبدا. قلت: أجرد؟ قال: طري أبدا قلت مقنع؟ قال: مستور.
– وبإسناده عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: إن حديثنا صعب مستصعب خشن مخشوش، فانبذوا إلى الناس نبذا، فمن عرف فزيدوه، ومن أنكر فأمسكوا لا يحتمله إلا ثلاث ملك مقرب، أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
– وبإسناد آخر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن حديثنا صعب مستصعب، أجرد ذكوان، وعر، شريف، كريم، فإذا سمعتم منه شيئا ولانت له قلوبكم، فاحتملوه، واحمدوا الله عليه وإن لم تحتملوه ولم تطيقوه، فردوه إلى الإمام العالم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) فإنما الشقي الهالك الذي يقول: والله ما كان هذا ثم قال (عليه السلام) يا جابر الإنكار هو الكفر بالله العظيم.
الفائدة الثانية: في بيان معنى الحديث في قولهم (عليهم السلام): حديثنا صعب مستصعب الخ: يحتمل أن يكون المراد كل ما ورد عنهم، ويوجه كونه صعبا بسبب صعوبة تحمله ويكون المراد بالاحتمال بيانه ونشره في مقام يقتضيه الحال فإن المؤمن الكامل يعرف مواقع البيان، من مواقع الكتمان فيعمل في كل مقام بما يرى صلاحه بنور الإيمان. لكن الأقرب في النظر القاصر، بل المتعين عند البصير الماهر، أن المراد بحديثهم المذكور في هذه الأخبار، ما ورد في فضائلهم من غرائب الأسرار وعجائب الآثار، ومقامات منيعة لا تدركها الأفكار، وشؤون بديعة يعجز عن بيانها أولو الأبصار وعلى هذا تكون الإضافة للاختصاص، بمعنى أن حديثنا الخاص بنا الوارد في فضلنا ومقاماتنا صعب مستصعب (الخ) لأن نسبة الحديث إليهم تتصور على وجهين:
أحدهما: مطلق ما أخبروا به، وعليه يتخرج المعنى الأول.
والثاني: ما يختص بهم في ذكر شؤونهم ومقاماتهم، وعلومهم وكراماتهم (و) على هذا تكون إضافة الحديث إليهم دالة على العموم، ولا حاجة إلى أن يقال: المراد بعض أحاديثهم بتقدير المضاف، أو يقال بأنه من باب المجاز اللغوي بذكر العام وإرادة الخاص بل المتعين أن يحمل على الحقيقة، وتكون الإضافة للاختصاص.
ويمكن أن يكون المراد بالحديث في تلك الروايات الشأن والصفة، كما ورد في بعض الكلمات الصادرة عن بعض الأجلة الثقات أو يكون الحديث مرادفا للذكر أو الأمر، ومرجع الكل واحد، ويدل على ما اخترناه وأيدناه أخبار عديدة.
– فمنها الأخبار الواردة بأن أمرهم صعب مستصعب، كرواية الصفار في البصائر عن أبي الربيع الشامي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنت معه جالسا، فرأيت أن أبا جعفر قد نام، فرفع رأسه، وهو يقول: يا أبا الربيع! حديث تمضغه الشيعة بألسنتها لا تدري ما كنهه. قلت: ما هو جعلني الله فداك؟ قال: قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. يا أبا الربيع! ألا ترى أنه يكون ملك ولا يكون مقربا ولا يحتمله إلا مقرب، وقد يكون نبي وليس بمرسل ولا يحتمله إلا مرسل، وقد يكون مؤمن وليس بممتحن ولا يحتمله إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان.
– وفيه بإسناده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خالطوا الناس مما يعرفون، ودعوهم مما ينكرون، ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا، إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
– وبإسناده: عن سدير الصيرفي قال كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) أعرض عليه مسائل قد أعطانيها أصحابنا: إذا خطرت بقلبي مسألة، فقلت: جعلت فداك، مسألة خطرت بقلبي الساعة قال: أليست في المسائل؟ قلت: لا قال: وما هي؟ قلت: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أمرنا صعب مستصعب، لا يعرفه إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فقال (عليه السلام): نعم إن من الملائكة مقربين وغير مقربين، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين، ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين، وإن أمركم هذا عرض على الملائكة، فلم يقر به إلا المقربون، وعرض على الأنبياء فلم يقر به إلا المرسلون، وعرض على المؤمنين فلم يقر به إلا الممتحنون.
– وفيه بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا من كتب الله في قلبه الإيمان.
– وفيه بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أمرنا أهل البيت صعب مستصعب، لا يعرفه ولا يقر به إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن نجيب امتحن الله قلبه للإيمان.
– وفيه بإسناده عن زياد بن سوقة قال: كنا عند محمد بن عمرو بن الحسن، فذكرنا ما أتي إليهم فبكى حتى ابتلت لحيته من دموعه ثم قال: إن أمر آل محمد أمر جسيم، مقنع لا يستطاع ذكره، ولو قد قام قائمنا لتكلم به، وصدقه القرآن. أقول: الظاهر أن الأمر في هذه الأحاديث وما ضاهاها مرادف للشأن، فالمراد صعوبة الشؤون التي جعلها الله تعالى لهم وخصهم بها، سواء كان الشأن من الأمور الدنيوية أم الأخروية، أم المعجزات الباهرة، أم الدلائل الظاهرة، أم العلوم الكاملة أم المواهب الشاملة، أم الأسرار الغريبة، أم الخصائص العجيبة، أم الحقوق المالية، أم الصفات الحالية، إلى غير ذلك مما لا يحصيها غير الله أو من علمه الله عز وجل أعني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأئمةالمعصومين. ولهذا شواهد عديدة في الأخبار، لا تخفى على المتتبع فيها بعين الاعتبار.
الفائدة الثالثة: في بيان معنى الصعب والمستصعب، وسائر الألفاظ المذكورة في تلك الروايات المأثورة.
أما الصعب: فهو نقيض الذلول فالذلول ما يذل ويلين لكل أحد بخلاف الصعب. قال في مجمع البحرين الصعب نقيض الذلول، يقال صعب الشئ بضم الثاني صعوبا، صار صعبا شاقا. انتهى.
والمراد به هنا المقام الذي لا يليق بغيرهم، ولا يتمكن أحد من الخلق غيرهم أن يناله، ويدركه من الشؤون التي خصهم الله تعالى بحيث لا تناله يد أحد من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين.
– ويدل على ما ذكرناه، ويشهد له، ما رواه في بصائر الدرجات عن المفضل قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن حديثنا صعب مستصعب، ذكوان، أجرد لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان. أما الصعب فهو الذي لم يركب بعد، وأما المستصعب فهو الذي يهرب منه إذا رئي، الخبر.
ويشهد لما ذكرناه أيضا من كون المراد بالصعب: المقام الذي خصهم الله تعالى به دون سائر خلقه:
– ما في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) *. شجرة العلم علم محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله)، الذين آثرهم الله تعالى عز وجل به دون سائر خلقه فقال الله تعالى: * (لا تقربا هذه الشجرة) * شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله خاصة دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم.
ومنها: ما كان تناوله النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير، حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش، ولا تعب ولا نصب، وهي شجرة تميزت من بين أشجار الجنة أن سائر أشجار الجنة كان كل نوع منها يحمل نوعا من الثمار والمأكول وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار، والفواكه، والأطعمة فلذلك اختلف الحاكون لتلك الشجرة، فقال بعضهم: هي برة، وقال آخرون: هي عنبة، وقال آخرون: هي تينة، وقال آخرون: هي عنابة. قال الله تعالى * (ولا تقربا هذه الشجرة) * تلتمسان بذلك درجة محمد وآل محمد وفضلهم، بإذن الله عز وجل ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ومن تناول منها بغير إذن الله، خاب عن مراده وعصى ربه، الخبر.
– ويشهد لذلك أيضا ما في تفسير البرهان عن ابن بابويه (رحمه الله) بإسناده عن الصادق (عليه السلام)، في حديث طويل، قال: فلما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة، قال لهما: * (كلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة) * يعني شجرة الحنطة * (فتكونا من الظالمين) * فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم، فوجداها أشرف منازل الجنة، فقالا: يا ربنا لمن هذه المنزلة؟ فقال جل جلاله: ارفعا رؤوسكما إلى ساق العرش فرفعا رؤوسهما فوجدا أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم مكتوبة على ساق العرش، بنور من نور الله الجبار جل جلاله. فقالا: يا ربنا، ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك ! وما أحبهم إليك ! وما أشرفهم لديك فقال الله جل جلاله: لولاهم ما خلقتكما، هؤلاء خزنة علمي، أمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتتمنيا منزلتهم عندي، ومحلهم من كرامتي، إلى أن قال الصادق (عليه السلام): فلما أراد الله عز وجل أن يتوب عليهما، جاءهما جبرائيل فقال لهما إنكما ظلمتا أنفسكما بتمني منزلة من فضل عليكما فجزاؤكما ما قد عوقبتما به من الهبوط من جوار الله عز وجل إلى أرضه، الخبر.
وأما المستصعب: فالمراد به ما يراه السامع ويعده صعبا وإليه الإشارة بقوله (عليه السلام) في حديث البصائر: وأما المستصعب فهو الذي يهرب منه إذا رئي (الخ).
وأما الخشن: فهو ضد اللين لصعوبة احتماله على غير الممتحنين.
وأما المخشوش: فهو الجمل الذي جعل في أنفه خشاش وهو بالكسر، عود يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع لانقياده فكأنه (عليه السلام) شبه حديثهم بذلك، دلالة على الأمر بحفظه وصيانته عمن لا يحتمله، ولا يؤمن به. وإنهم (عليهم السلام) لم يبينوه إلا لمن يكون أهلا لذلك. فيجب على المؤمن أن لا يذكر أسرارهم وصفاتهم الخاصة بهم إلا لمن يطيق ذلك ويحتمله، و (هذا) معنى جعل الحديث مقيدا بالخشاش، ويدل على ذلك قوله (عليه السلام) في الحديث الذي رويناه: فانبذوا إلى الناس نبذا، فمن عرف فزيدوه، ومن أنكر فأمسكوا، الخ. وأما الوعر: فهو بسكون العين، ضد السهل فهو تأكيد للصعب المستصعب.
الفائدة الرابعة: في معنى قوله: إن أمركم هذا عرض على الملائكة فلم يقر به إلا الممتحنون، فإنه بظاهره ينافي الأخبار الكثيرة، الدالة على أن جميع الملائكة، والنبيين، يتقربون إلى الله تعالى ويدينون بولايتهم (عليهم السلام) ويقرون بالشؤون التي جعلها الله عز وجل لهم.
– منها: ما في بصائر الدرجات بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما جاورت ملائكة الله تبارك وتعالى في دنوها منه إلا بالذي أنتم عليه، وإن الملائكة ليصفون ما تصفون، ويطلبون ما تطلبون، وإن من الملائكة ملائكة يقولون: إن قولنا في آل محمد (صلى الله عليه وآله) مثل الذي جعلتهم عليه.
– وفيه أيضا بإسناده عن حماد بن عيسى قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ فقال (عليه السلام): والذي نفسي بيده لملائكة الله في السماوات أكثر من عدد التراب، وما في السماء موضع قدم، إلا وفيه ملك يقدس له ويسبح، ولا في الأرض شجرة ولا مثل غرزة، إلا وفيها ملك موكل يأتي الله كل يوم يعلمها الله أعلم بها، وما منهم أحد إلا ويتقرب إلى الله في كل يوم بولايتنا أهل البيت، ويستغفر لمحبينا، ويلعن أعداءنا ويسأل الله أن يرسل عليهم من العذاب إرسالا.
– وفيه بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومثلوا له فأقروا بطاعتهم وولايتهم.
– وفيه بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: ما نبئ نبي قط إلا بمعرفة حقنا وبفضلنا عمن سوانا.
– وفيه في رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال: ما من نبي نبئ ولا من رسول أرسل، إلا بولايتنا وبفضلنا عمن سوانا.
– وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ولايتنا ولاية الله، التي لم يبعث الله نبيا قط إلا بها، إلى غير ذلك.
ويمكن الجمع بينهما بوجوه:
أحدها: أن يكون المراد في هذه الأخبار الإذعان والإقرار بولايتهم وأفضليتهم على نحو الإجمال وفي الأولى الإذعان والإقرار التفصيلي، الناشئ عن معرفة خصائصهم وشؤونهم تفصيلا.
والثاني: أن يكون المراد في تلك الأخبار التصديق القلبي فقط وفي الأول اللساني والقلبي جميعا.
والثالث: أن يكون المراد في الحديث الأول المسابقة في عالم الأرواح إلى الإقرار بما جعل الله لمحمد وآله الأبرار فالسابقون إلى ذلك هم الأنبياء المرسلون والملائكة المقربون، والمؤمنون الممتحنون، وسائر الأنبياء والملائكة والمؤمنين قد اتبعوا في ذلك الأولين * (والسابقون السابقون أولئك المقربون) *. هذا ما سنح بالبال في هذا المقال ويشهد لكل من تلك الوجوه الثلاثة بعض الأخبار وذكرها ينافي ما أردناه من الاختصار، والله العالم وهو العاصم.
ثم إنه لا يبعد أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): إن أمركم هذا – بقرينة بعض الروايات – خصوص ما يتعلق بقيام القائم صلوات الله وسلامه عليه، فإنه من الأسرار التي لا يبقى على الإذعان بها إلا الأندر فالأندر ويشهد لذلك عدّة روايات:
– منها: ما في أصول الكافي بإسناده عن منصور قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا منصور إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس، ولا والله حتى تميزوا، ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.
– وفيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن حديثكم هذا لتشمئز منه قلوب الرجال، فمن أقر به فزيدوه، ومن أنكره فذروه إنه لا بد من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة، حتى يسقط فيها من يشق الشعر بشعرتين، حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا.
– وفي غيبة النعماني بإسناده عن صفوان بن يحيى، قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا وتميزوا، وحتى لا يبقى منكم إلا الأندر فالأندر.
– وفيه عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: لتمحصن يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب الكحل يدري متى يقع الكحل في عينه، ولا يعلم متى يخرج منها وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا، ويمسي وقد خرج منها ويمسي على شريعة من أمرنا، ويصبح وقد خرج منها، وفي معناها روايات عديدة.
– ويشهد لذلك أيضا ما في البصائر وأصول الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا، وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض، فعركه عركا شديدا، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم أخذ الميثاق على النبيين فقال ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي وأن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا بلى فثبتت لهم النبوة، وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم، ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري، وخزان علمي (عليهم السلام) وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم به وهو قوله عز وجل * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * قال: إنما هو فترك الخبر.
الفائدة الخامسة: الظاهر أن المراد بالمؤمن الممتحن: هو الذي لا يزيغ قلبه بسبب تهاجم أسباب الشك والارتياب والمراد بالمدينة الحصينة: من له ملكة حفظ الأسرار، والقبول والتسليم لما يلقى إليه من فضائل الهداة الأطهار، وإن لم يكن داخلا في الممتحنين الأبرار.
الفائدة السادسة: في بيان المراد من الاحتمال المذكور في تلك الأخبار:
– روى الشيخ النعماني (رحمه الله) في الغيبة بإسناده عن عبد الأعلى قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد الأعلى! إن احتمال أمرنا ليس معرفته وقبوله، إن احتمال أمرنا هو صونه وستره عمن ليس من أهله، فاقرئهم السلام ورحمة الله – يعني الشيعة – وقل: قال لكم: رحم الله عبدا استجر مودة الناس إلى نفسه وإلينا بأن يظهر لهم ما يعرفون، ويكف عنهم ما ينكرون.
وفي بعض النسخ: والله ما الناصبة لنا حربا أشد مؤنة من الناطق علينا بما نكرهه، وذكر الحديث بطوله إلى آخره.
– وفيه بإسناد آخر عنه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال ليس هذا الأمر معرفته وولايته فقط حتى تستره عمن ليس من أهله وبحسبكم أن تقولوا ما قلنا وتصمتوا عما صمتنا، فإنكم إذا قلتم ما نقول، وسلمتم لنا فيما سكتنا عنه فقد آمنتم بمثل ما آمنا به قال الله تعالى: * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) * قال علي بن الحسين، حدثوا الناس بما يعرفون ولا تحملوهم ما لا يطيقون فتغرونهم بنا.
– وفيه بإسناد آخر عنه قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام): إن احتمال أمرنا ليس هو التصديق به والقبول له فقط إن من احتمال أمرنا ستره وصيانته عن غير أهله فاقرئهم السلام ورحمة الله – يعني الشيعة – وقل لهم: يقول لكم رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلي وإلى نفسه، يحدثهم بما يعرفون، ويستر عنهم ما ينكرون، ثم قال لي: والله ما الناصبة لنا حربا أشد مؤنة علينا من الناطق علينا بما نكرهه.
– وفيه في رواية أخرى عن الصادق (عليه السلام) قال إنه من كتم الصعب من حديثنا، جعله الله نورا بين عينيه ورزقه العز في الناس ومن أذاع الصغير من حديثنا لم يمت حتى يعضه السلاح، أو يموت متحيرا.
– وفي تحف العقول عن الصادق (عليه السلام)، في وصاياه لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول المعروف بمؤمن الطاق قال (عليه السلام): يا بن النعمان! إن المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هو أعظم وزرا، بل هو أعظم وزرا، بل هو أعظم وزرا يا بن النعمان ! أنه من روى علينا حديثا فهو ممن قتلنا عمدا، ولم يقتلنا خطاء إلى أن قال: يا بن النعمان! إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم لأنه سر الله الذي أسره إلى جبرائيل وأسره جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، وأسره محمد (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وأسره علي (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام) وأسره الحسن (عليه السلام) إلى الحسين (عليه السلام) وأسره الحسين (عليه السلام) إلى علي (عليه السلام) وأسره علي (عليه السلام) إلى محمد (عليه السلام) وأسره محمد (عليه السلام) إلى من أسره فلا تعجلوا فوالله لقد قرب هذا الأمر ثلاث مرات فأذعتموه فأخره الله، والله ما لكم سر إلا وعدوكم أعلم به منكم. يا بن النعمان! أبق على نفسك فقد عصيتني، لا تذع سري فإن المغيرة بن سعيد كذب على أبي، وأذاع سره، فأذاقه حر الحديد وإن أبا الخطاب كذب علي وأذاع سري، فأذاقه الله حر الحديد ومن كتم أمرنا زينه الله به في الدنيا والآخرة وأعطاه حظه ووقاه حر الحديد، وضيق المحابس. إن بني إسرائيل قحطوا حتى هلكت المواشي والنسل، فدعا الله موسى بن عمران فقال: يا موسى إنهم أظهروا الزنا والربا وعمروا الكنائس وأضاعوا الزكاة فقال: إلهي ! تحنن برحمتك عليهم، فإنهم لا يعقلون فأوحى الله إليه: إني مرسل قطر السماء ومختبرهم بعد أربعين يوما، فأذاعوا ذلك وأفشوه، فحبس عنهم القطر أربعين سنة. وأنتم قد قرب أمركم فأذعتموه في مجالسكم، إلى أن قال (عليه السلام): يا بن النعمان! لا يكون العبد مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث سنن سنة من الله، وسنة من رسوله، وسنة من الإمام. فأمّا السنّة من الله جلّ وعزّ فهو أن يكون كتوما للأسرار: يقول الله جل ذكره * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) *. وأمّا التي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو أن يداري الناس ويعاملهم بالأخلاق الحنيفية. وأمّا التي من الإمام فالصبر في البأساء والضراء حتى يأتيه الله بالفرج. الخبر.
والحاصل من تلك الأخبار وغيرها أن الاحتمال المأمور به، المقصود في كلماتهم (عليهم السلام) يتقوم بثلاثة أمور:
الأول: معرفة أمورهم وفضلهم.
والثاني: قبولها والتسليم لها.
والثالث: صونها عن غير أهلها. ولما كان بعض الملائكة والنبيين بحسب مراتبهم قاصرين عن معرفة بعض خصائص الأئمة وغرائب فضائلهم قال (عليه السلام) لا يحتمله إلا ملك مقرب الخ. فإن عدم احتمالهم إنما هو من حيث قصورهم عن المعرفة ببعض ما خص الله تعالى به محمدا وآله المعصومين لا من حيث عدم التسليم فإنه كفر بالله العظيم كما مر في الرواية في آخر الفائدة الأولى من الفوائد السابقة بل لهم أسرار وعلوم لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل.
– روى في البصائر بإسناده عن أبي الصامت قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد مؤمن. قلت: فمن يحتمله؟ قال (عليه السلام): نحن نحتمله.
الفائدة السابعة: في بيان كون الدعاء للقائم (عليه السلام) بحسب ما جعله الله له من الخصائص في زمان غيبته وظهوره، من الأسرار العجيبة، والأمور الصعبة التي لم يتفق لأحد من الأنبياء والمرسلين، والأولياء المقربين والأوصياء المرضيين وهذا أمر لا يحتاج إلى البيان بل هو مشاهد بالوجدان. وينطق عليه الروايات المروية عن أهل الذكر والتبيان كما قال مولانا أبو محمد العسكري (عليه السلام) لأحمد بن إسحاق: يا أحمد بن إسحاق! هذا أمر من أمر الله وسر من سر الله وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين، تكن غدا في عليين.
ولذلك كان الأئمة يسترون أمره، وينهون عن ذكر اسمه في المجالس والمحافل. بل كان أمره (عليه السلام) من الأمور الصعبة. في الحديث عن الباقر (عليه السلام): إن آدم لم يجحد ولم يقر، إلى غير ذلك مما يفيد القطع. يكون أمر المهدي (عليه السلام) من الأمور الصعبة والأسرار العجيبة التي لا يحتملها إلا ملك مقر أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. ولما كان الدعاء له (عليه السلام) كاشفا عن المعرفة به، والتسليم لأمره صح أن يقال للداعي في حقه: إنه من مصاديق ذلك العنوان.
الفائدة الثامنة في بيان سببية الدعاء بتعجيل فرج مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) لاقتدار المؤمن على احتمال سائر أحاديثهم، وأمورهم الصعبة المستصعبة وتقريره أن المداومة في الدعاء له (عليه السلام) تكون من أسباب كمال الإيمان، وثبوت المؤمن على درجة الإيقان وقد تبين بالأحاديث السابقة، أن احتمال أمورهم وأحاديثهم الصعبة المستصعبة من آثار هذا الشأن فثبت المطلوب ببينة وبرهان.
وتقريره: أن الدعاء الخالص في حق مولانا صاحب الزمان سبب لخلوص الإيمان، وخلوص الإيمان سبب لنيل هذا الشأن فينتج أن الدعاء لصاحب الزمان سبب لنيل هذا الشأن، والله الموفق وهو ولي الإحسان.

(مکیال المکارم ؛ ج 1 ؛ محمد تقی الموسوی الاصبهانی)