أنه يترتب على ذلك فوائد إجلال الكبير والتواضع له، فالكلام يقع في مقامات:
الأول: في بيان تلك الفوائد.
والثاني: في معنى التواضع.
والثالث: في بيان بعض أنواع التواضع وكيفية حصوله في هذا المقام بالدعاء لمولانا خاتم الأئمة الكرام عليه وعلى آبائه آلاف التحية والسلام.

أمّا المقام الأول: فاعلم أن ما استفدناه فوائد ستة، ولعل المتتبع في الأخبار يقف على غيرها من الفوائد والآثار.
الأولى: أنه إجلال الله.
– ففي الكافي بسند مرسل كالصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم.
– وفي الوسائل بسند صحيح عنه (عليه السلام)، قال: إن من إجلال الله عز وجل إجلال الشيخ الكبير.
– وفيه عنه (عليه السلام) قال: من إجلال الله عزّ وجلّ إجلال المؤمن ذي الشيبة، ومن أكرم مؤمنا فبكرامة الله بدأ ومن استخف بمؤمن ذي شيبة أرسل الله إليه من يستخف به قبل موته.
– وفيه عن النبي (صلى الله عليه وآله) بسند مرفوع قال: من تعظيم الله إجلال ذي الشيبة المؤمن.
– وفيه في حديث عامي عنه (صلى الله عليه وآله) قال: بجلوا المشايخ فإن من إجلال الله تبجيل المشايخ.
أقول: لما كان شرف الإسلام أعلى وأجل من كل شرف، كان السابقون إليه أجدر بالتعظيم والتشريف عند الله عزّ وجلّ ولا ريب في أن إعظام هؤلاء القوم تعظيم وإجلال له عزّ وجلّ، لأجل سابقتهم إلى الإسلام، وتقدمهم في عبادته وطاعته، فلذلك جعل إجلالهم إجلالا له.
الثانية: الأمن من فزع يوم القيامة:
– لما روي في الوسائل بسند موثق كالصحيح عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرف فضل كبير لسنه فوقره، آمنه الله من فزع يوم القيامة.
– وفيه بالإسناد السابق عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال: من وقر ذا شيبة في الإسلام آمنه الله من فزع يوم القيامة.
– وفيه بسند مرفوع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من عرف فضل شيخ كبير فوقره لسنه آمنه الله من فزع يوم القيامة.
الفائدة الثالثة: التقرب إلى الله عز وجل لأنه من التواضع.
– في أصول الكافي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فيما أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود: يا داود! كما أن أقرب الناس من الله المتواضعون، كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون.
الفائدة الرابعة: أنه يحصل بذلك أداء بعض حقوقه.
– ففي دار السلام عن الفقيه عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عزّ وجلّ: الإجلال له في غيبته، الخبر.
أقول: لعل المراد بالوجوب هنا المعنى اللغوي، يعني الثبوت فمفاده أن تلك الحقوق حقوق جعلها الله تعالى للمؤمن على المؤمن: فإن مراتب الإجلال ودرجاتها في الغيبة أو الحضور كثيرة بعضها واجبة كرد غيبته وبعضها مندوبة، كالدعاء له ومدحه في الغياب، والله الموفق للصواب. ثم لا يخفى أن هذا الحق إذا ثبت للمؤمن فهو ثابت لإمامهم بطريق أولى ونحو أوفى، لأنه في كل خير أتم وبه أحرى.
الخامسة: أنه يحصل حبه بالدعاء له، يعني أن الداعي يصير بذلك محبوبا لمولاه وفي ذلك جميع ما يتمناه، لأنه إحسان وإظهار للحب، وكلاهما يجلبان المحبة، مضافا إلى ما فيه من التعظيم والتكريم، وهو أيضا مما يزرع المحبة في قلب من يتواضع له بل نفس صفة التواضع يزرع حب صاحبها في قلوب الناس طرا، وهذا محسوس بحسب الآثار ومنصوص في جملة من الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار.
– ففي دار السلام عن سيد الأوصياء الأبرار أنه قال: ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق، وحسن الرفق، والتواضع.
– وفيه: عن مولانا الباقر (عليه السلام)، أنه قال: ثلاثة تورث المحبة: الدين، والتواضع، والبذل.
السادسة: الرفعة والاحترام الموهوب من الملك العلام، فإنه من ثمرات التواضع:
– كما في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إنّ الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم الله وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عزا فاعفوا يعزكم الله.
– وفيه: بسند صحيح عن الصادق (عليه السلام) قال: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه.
– وفيه بإسناد صحيح أيضا عنه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من تواضع رفعه الله، ومن تكبر خفضه الله.
– وفي الفقيه في وصاياه لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي! والله لو أن الوضيع في قعر بئر لبعث الله عزّ وجلّ إليه ريحا ترفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار.
– وفي أصول الكافي في حديث مرفوع عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: فأوحى الله إلى الجبال: إني واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكن فتطاولت وشمخت، وتواضع الجودي، وهو جبل عندكم، فضربت السفينة بجؤجئها الجبل، الخبر.
– وروى الشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي (رحمه الله) في كامل الزيارات بإسناده عن صفوان الجمال، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى فضل الأرضين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت، فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لترك التواضع لله حتى سلط الله على الكعبة المشركين، وأرسل إلى زمزم ماء مالحا حتى أفسد طعمه. وإن كربلاء وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس الله تبارك وتعالى، وبارك عليه فقال لها: تكلمي ما فضلك الله؟ فقالت: لما تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض، قلت: أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك ولا فخر على من دوني، بل شكرا لله. فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين (عليه السلام) وأصحابه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله.
– وفي بحار الأنوار من المكارم قال: لقد جاء النبي (صلى الله عليه وآله) ابن خولة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه فقال (صلى الله عليه وآله): شربتان في شربة، إناءان في إناء واحد فأبى أن يشربه، ثم قال (صلى الله عليه وآله) ما أحرمه! ولكني أكره الفخر والحساب بفضول الدنيا غدا، وأحب التواضع فإن من تواضع لله رفعه الله.
– وفيه: من كتاب الزهد بإسناده الصحيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفطر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية الخميس في مسجد قبا، فقال (صلى الله عليه وآله): هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولة بعس من لبن مخيض بعسل، فلما وضعه على فيه، نحاه ثم قال: شرابان يكتفى بأحدهما عن صاحبه، لا أشربه، ولا أحرمه، ولكني أتواضع لله فإن من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر خفضه الله، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله ومن بذر حرمه الله، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله.
المقام الثاني: في بيان معنى التواضع إعلم أن التواضع والتكبر من الكيفيات النفسانية، التي تظهر من كل منهما آثار كثيرة.
والأول: أن يكون الشخص عند نفسه حقيرا بالنسبة إلى الغير.
والثاني: أن يكون عند نفسه عظيما بالنسبة إلى الغير، ويكون غيره في نظره حقيرا بالنسبة إلى نفسه، وبهذا القيد يفرق بينه وبين العجب، فإن المراد منه أن يكون الشخص حسنا في نظره من حيث الجمال، أو الكمال، أو الأعمال، أو النسب أو جميعها، مع قطع النظر عن الغير. والتكبر: أن يرى ذلك بالنسبة إلى الغير، فيكون غيره حقيرا في نظره، وإنما ينشأ الكبر من جهل الشخص بمساوئ نفسه ومحاسن غيره أو الغفلة عنها. وكما يطلق التكبر على تلك الصفة النفسانية كذلك يطلق على آثارها الناشئة عنها، والأفعال الخارجية المنبعثة منها كالمشي مرحا، وجر الثوب على الأرض، وترك رد السلام، ونحوها وكذلك التواضع قد يطلق على الصفة النفسانية التي هي ضد التكبر، وقد يطلق على آثارها الناشئة عنها كإجلال المشايخ، والجلوس مع المساكين وإجابة دعوتهم والابتداء بالسلام ونحوها.
واعلم أن الكبر من الصفات الذميمة والمهلكات العظيمة، وقد ورد في ذمه الآيات والأخبار الكثيرة.
– فمنها: ما رواه ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله) في أصول الكافي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد، الخبر.
– ومنها: ما رواه الكليني في أصول الكافي أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) العز رداء الله، والكبر إزاره، فمن تناول شيئا منه، أكبه الله في جهنم.
– وفيه بإسناده عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام قال الكبر رداء الله، والمتكبر ينازع الله في ردائه.
– وفيه بإسناده عن أبي عبد الله، عليه الصلاة والسلام، قال: الكبر رداء الله، فمن نازع الله شيئا من ذلك، أكبه الله في النار.
– وفيه في الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في جهنم لواديا للمتكبرين، يقال له سقر شكى إلى الله عز وجل شدة حره، وسأله أن يأذن له أن يتنفس، فتنفس فأحرق جهنم.
– وفيه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن المتكبرين يجعلون في صورة الذر، يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب.
– ولا ينافي هذه الأخبار، ما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما: أي الباقر أو الصادق (عليهما السلام) قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر، قال: فاسترجعت فقال (عليه السلام) ما لك تسترجع ! قلت: لما سمعت منك فقال (عليه السلام): ليس حيث تذهب، إنما أعني الجحود، وإنما هو الجحود. انتهى.
فإن هذا الحديث يخص بهذا العقارب الكبر الذي يكون سببا للجحود والإباء عن عبادة الله أو إطاعة أنبيائه وأوليائه، والانقياد لهم كتكبر إبليس وأضرابه وأحزابه من الكافرين والغاصبين لمناصب الأئمة الطاهرين، سلام الله عليهم أجمعين.
ووجه عدم التنافي، أن الروايات السابقة دلت على كون المتكبر من أهل النار مطلقا، سواء كان جاحدا أم لا، ولم يذكر فيها عدم دخوله في الجنة. وهذا الحديث دل على كون عدم دخول الجنة مخصوصا بذلك الصنف من المتكبرين ولم يذكر الإمام (عليه السلام) أن معنى الكبر: الجحود كما لا يخفى.
وبالجملة فاعلم أن التواضع مفتاح كل خير، والتكبر مفتاح كل شر، لأنه يمنع صاحبه عن تحصيل الفضائل، وتبعيد الرذائل.
المقام الثالث: في الإشارة إلى بعض أقسام التواضع، وبيان كون الدعاء من أقسامه. إعلم أن التواضع أمر إضافي، تتعدد أقسامه بحسب ما يضاف إليه كالتواضع لله تعالى والتواضع لأنبيائه ولأوليائه والتواضع للمشايخ، والتواضع للوالدين وللمعلم، وللمتعلم، وللمؤمنين، وللشرفاء، وللعلماء، والتواضع في المسكن، وفي المجلس، والمطعم والمشرب، والملبس، والمنكح، والتواضع في المشي وفي الكلام، إلى غير ذلك من الأقسام، ولكل من هذه الأقسام فوائد عظام، يوجب ذكرها الإطناب في الكلام والخروج عما هو المقصود في هذا المقام. وأما ما ادعيناه من كون الدعاء لخاتم الأئمة الكرام عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام مندرجا في هذه الأقسام، فلأن الدعوات الصادرة عن الإنسان وغيره من الداعين في حق غيرهم، يكون على أقسام.
فمنها: دعاء الشفقة والرحمة، كدعاء الوالد لولده، والأخ لإخوته والملائكة لزوار قبر الحسين ونحوها.
ومنها: دعاء المجازاة كدعاء من أحسن إليه أحد، أو دفع عنه سوء لهذا المحسن، أو الدافع، ودعاء المتعلم لمعلمه ونحوها.
ومنها: الدعاء في حق الغير رجاء لإحسانه، والانتفاع به والفرق بين هذا وسابقه أن السابق دعاء لأجل أمر قد وقع وهذا دعاء لأجل خير متوقع.
ومنها: دعاء التعظيم والتواضع، كدعاء الناس للعظماء والأعيان، والأشراف والأركان فإن دعاء الناس في حقهم غالبا إنما يكون توقيرا وتجليلا وتواضعا لهم بل يعد ترك الدعاء لهم في المحافل على المنابر توهينا بهم وهتكا لهم. إذا عرفت هذا، فنقول: إن الدعاء لمولانا صاحب الزمان، وطلب تعجيل فرجه من القادر المنان، قد اجتمع فيه العناوين المذكورة بالضرورة، والعيان، عند من نظر بنور حقيقة الإيمان، فيترتب على كل منها فوائد جليلة ومكارم جميلة.
أما العنوان الأول: وهو الدعاء بحسب الشفقة والرحمة فلإجتماع موجبات الرحمة به، والشفقة عليه في وجوده المبارك فلنشر إلى بعضها لمن أراد السلوك في تلك المسالك.
فمنها: الوالدية الحقيقية للمؤمنين.
ومنها: الأخوة الواقعية مع المؤمنين.
ومنها: القربة وقلة الأنصار.
ومنها: الغيبة والعزلة عن الأحبة والديار.
ومنها: المظلومية بسبب غصب حقوقه.
ومنها: المظلومية لكونه موتورا بأبيه، وأجداده، وأرحامه وقراباته.
ومنها: الإيمان.
ومنها: كثرة أعدائه وضعف أحبائه.
ومنها: كثرة كربه وهمه وغمه بسبب ما يرد على أحبته، وشيعته في زمان غيبته.
ومنها: طول زمان ابتلائه.
ومنها: مجهولية قدره في الناس وانحرافهم عن طريقته.
ومنها: تقصير المؤمنين به في متابعته وخدمته، إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل في جهات أحواله، روحي وأرواح الطيبين له الفداء. فيدرك المؤمن المخلص بالدعاء له الفوائد التي تترتب على ما أشرنا إليه من الجهات بأكمل الغايات وأعلى الدرجات، ففيه ثواب بر الوالد، ورعاية الأخ في الله، وإعانة الغريب والمظلوم، ونصرة المؤمن الواقعي، والتفريج عن المغموم والتنفيس عن المكروب، ورعاية المبتلى، والترحم على العالم المجهول قدره عند الجهال فإن بكل منها يحصل فوائد جمة ومكارم مهمة.
وأما العنوان الثاني: وهو الدعاء في حق الغير جزاء لإحسانه و علمناأن جميع ما نتقلب فيه من النعم والمنافع، إنما هو بتوسطه، وببركة وجوده (عليه السلام) مضافا إلى أنواع إحسانه إلينا من الدعاء في حقنا ودفع أعدائنا وحلمه عنا، وإفاضاته العلمية إلينا، وشفاعته لنا، وسائر أنواع الإحسان مما يعجز عن بيانه اللسان، ويقصر عن تحريره البنان، وقد قال الله عز وجل في محكم القرآن، ومنزل التبيان، في سورة الرحمن: * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان) *. فيا من لا يقدر على مجازاة نعم مولاه، المحسن إليه بكل ما يتمناه، أفلا تقدر على جعل ساعة من ساعات ليلك أو نهارك اللذين يمضيان بغير اختيارك مخصوصة بالدعاء لصاحب الزمان الذي أنعم عليك بكل عنوان، وأحسن إليك بصنوف الإحسان التي يعجز عن عدها ووصفها اللسان، بل عمرك الذي تحصل كل ما تحصل به نعمة من النعم التي أنعم الله بها عليك بسببه!! فما أجفاك، ثم ما أجفاك! إن لم يضطرب قلبك لما أسمعناك، ولم يتحرك لسانك بالدعاء في حق مولاك فانتبه من رقدة اللهو وقم وانف عن عين تماديك المنايا، واعلم أن الرائد لا يكذب أهله، وما علينا إلى البلاغ * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *.
وأما العنوان الثالث: وهو الدعاء للغير رجاء لإحسانه والانتفاع به وأن أوفر العطيات، وأجزل النعم، وأكمل المواهب والقسم يحصل للمؤمنين بظهور خاتم الأئمة المعصومين، فينبغي لهم الاهتمام في الدعاء بتعجيل فرجه وظهوره، لينالوا ببركاته ويستضيئوا بشعاع نوره.
وأما العنوان الرابع: وهو الدعاء للغير تعظيما وتجليلا له فنقول: هل تعلم أحدا أجل قدرا، وأرفع شأنا، وأكرم نفسا وأمجد شخصا وأوجه جاها وأطول عمرا وأعلى نسبا وأسنى حسبا وأوضح برهانا وأكثر إحسانا وأفضل علما وأعظم حلما، وأوفر كمالا وأجل جلالا، وأصبح جمالا من مولاك صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه وظهوره.
فإن قال أحد: نعم.
قلت: أنت ضال عن طریق المحبة وإن قال: لا، قلت: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * أفما سمعت قول النبي (صلى الله عليه وآله) من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم وغيره من الأحاديث التي أسمعناكها، لتكون حجة بيننا وبين الجاهلين. فإذا كان إجلال مشايخ المسلمين ومعمريهم بتلك المثابة فكيف يمكن لأحد بيان فضل عمل يحصل به إجلال أفضل مشايخ المسلمين، وسيدهم، وإمامهم، وأعلمهم الذي يعجز عن نعته قلم الإنشاء، ويظهره الله لإظهار عدله متى شاء! * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *. إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: إن الدعاء له بتعجيل الظهور، وطلب الفرح والفرج والسرور، توقير وتجليل وتواضع له في الغيبة والحضور.
أما الأول: فلأنه غائب ظاهرا عن الأبصار، ومستور عن العيون والأنظار.
وأما الثاني: فلأنه حاضر في قلوب الأخيار
– وشاهد على الخلق في جميع الأمصار، ناظر إليهم كالمصاحب معهم في المنزل والدار، وإن كنت في ريب من ذلك فانظر في كتب الأخبار، ليتضح لك الحق كالشمس في رابعة النهار، وهو صاحب المرأى والمسمع.
– فمن الأخبار الدالة على أن الإمام (عليه السلام) يرى الخلق وأفعالهم، ويعلم ضمائرهم وأحوالهم، ما في بصائر الدرجات بإسناده عن رميلة، قال: وعكت وعكا شديدا في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فوجدت من نفسي خفة في يوم الجمعة وقلت: لا أعرف شيئا أفضل من أن أفيض على نفسي من الماء، وأصلي خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) ففعلت. ثم جئت إلى المسجد، فلما صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) المنبر، عاد علي ذلك الوعك، فلما انصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) ودخل القصر، دخلت معه، فقال: يا رميلة رأيتك، وأنت متشبك بعضك في بعض. فقلت: نعم، وقصصت عليه القصة التي كنت فيها، والذي حملني على الرغبة في الصلاة خلفه. فقال (عليه السلام): يا رميلة! ليس من مؤمن يمرض إلا مرضنا بمرضه، ولا يحزن إلا حزنا بحزنه، ولا يدعو إلا أمنا لدعائه، ولا يسكت إلا دعونا له فقلت له، يا أمير المؤمنين! جعلني الله فداك! هذا لمن معك في القصر، أرأيت من كان في أطراف الأرض؟ قال (عليه السلام): يا رميلة! ليس يغيب عنا مؤمن في شرق الأرض ولا في غربها.
– وفيه أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن الدنيا تمثل للإمام (عليه السلام) في فلقة الجوز، فما تعرض لشئ منها، وإنه ليتناولها من أطرافها، كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء، فلا يعزب عنه منها شئ.
– وفيه أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الإمام يسمع الصوت في بطن أمه، فإذا بلغ أربعة أشهر كتب على عضده الأيمن: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) * فإذا وضعته أمه، سطع له نور ما بين السماء والأرض، فإذا درج رفع له عمود من نور يرى به ما بين المشرق والمغرب.
– وفيه عن أحمد بن محمد عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج، قال: روى غير واحد من أصحابنا، قال: لا تتكلموا في الإمام، فإن الإمام (عليه السلام) يسمع الكلام وهو جنين في بطن أمه، فإذا وضعته كتب الملك بين عينيه * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) * فإذا قام بالأمر رفع له في كل بلد منار، ينظر به إلى أعمال العباد.
– وفي رواية أخرى عن أبي الحسن، يعني موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: إنما منزلة الإمام في الأرض بمنزلة القمر في السماء، وفي موضعه، هو مطلع على جميع الأشياء كلها.
– وبإسناده عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) وسألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض، وهو في بيته مرخى عليه ستره، فقال (عليه السلام): يا مفضل إن الله تبارك وتعالى جعل للنبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أرواح: روح الحياة فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه أمر وعدل، وروح القدس فبه حمل النبوة. فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار في الإمام (عليه السلام)، وروح القدس لا ينام ولا يغفل، ولا يلهو، ولا يسهو، والأربعة الأرواح تنام، وتلهو، وتغفل، وروح القدس ثابت يرى به ما في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها. قلت: جعلت فداك، يتناول الإمام ما ببغداد بيده؟ قال: نعم، وما دون العرش.
– وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله)، في كتاب فضائل شهر رمضان، بسند صحيح عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: من عادى شيعتنا فقد عاداني، ومن والاهم فقد والاني، لأنهم منا، خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منا، ومن أبغضهم فليس منا، شيعتنا ينظرون بنور الله، وينقلبون في رحمة الله، ويفوزون بكرامة الله، ما من أحد من شيعتنا يمرض إلا مرضنا لمرضه، ولا يغتم إلا غممنا لغمه، ولا يفرح إلا فرحنا لفرحه، ولا يغيب عنا أحد من شيعتنا أين ما كان في شرق الأرض وغربها. ومن ترك من شيعتنا دينا فهو علينا، ومن ترك منهم مالا فلورثته، شيعتنا الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون البيت، ويصومون شهر رمضان، ويوالون أهل البيت، ويبرؤون من أعدائنا أولئك أهل الإيمان والتقى، وأهل الورع والتقوى من رد عليهم فقد رد على الله، ومن طعن عليهم فقد طعن على الله، لأنهم عباد الله حقا وأولياؤه صدقا، والله إن أحدهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر فيشفعهم الله فيهم لكرامته على الله عز وجل.
أقول: الأخبار الدالة على ما ذكرنا كثيرة جدا، مذكورة في كتب الحديث. وتؤيده الأحاديث الدالة على كونهم شهداء على الخلق، وهي مذكورة في أصول الكافي، وغيره. فإن معنى الشهيد الحاضر المطلع على الواقعة كما لا يخفى. والحاصل: كما أن الدعاء للأشراف في محضرهم تعظيم وتواضع لهم، كذلك الدعاء لأشرف الأشراف في زماننا مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) في محضره تعظيم وتواضع له، وحيث إن جميع أقطار العالم محضر له صلوات الله عليه، فينبغي للمؤمن أن يعظمه ويبجله بالدعاء له، حيثما كان وأين ما كان.
تذنيب إعلم أن التواضع للإمام (عليه السلام) قسمان: قلبي وبدني،
أما التواضع القلبي: فهو أن يعتقد ويذعن المؤمن بأن الإمام أفضل وأشرف منه، ومن جميع ما سوى الله تعالى، بعد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) من الملائكة والنبيين وغيرهم، وإن الله عز وجل لم يخلق خلقا أفضل من رسول الله وأهل بيته الطاهرين وهذا اعتقادنا حقا عليه أحيى وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى.
ويدل على ذلك الأخبار الكثيرة المتواترة القطعية، ولو أردت ذكرها لكان كتابا مفصلا.
وعن السيد الجزائري رحمه الله تعالى أنه قال: الأخبار الدالة على هذا المطلب كثيرة جدا، والذي اطلعت عليه منها زهاء ألف حديث. وعن الصدوق في اعتقاداته قال: ويجب أن يعتقد أن الله عزّ وجلّ لم يخلق خلقا أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) إلى آخر ما قال.
وعن المجلسي في اعتقاداته قال: ثم لا بد أن تعتقد في النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) أنهم أشرف المخلوقات جميعا، وأنهم أفضل من جميع الأنبياء (عليهم السلام)، وجميع الملائكة. انتهى.
– ومما يدلّ على ذلك من الأخبار الكثيرة ما رواه ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله) في أصول الكافي بإسناده عن أمير المؤمنين، في حديث قال: * (إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابه، وصراطه، وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون) *. الخبر.
ويدل عليه أيضا الأخبار الناصة بأنهم مثل النبي في كل شئ، إلا النبوة:
– ففي أصول الكافي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام نجري مجرى واحدا فأما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) فلهما فضلهما. انتهى.
– ويدل عليه أيضا الروايات الدالة على أن عندهم اثنين وسبعين حرفا من الاسم الأعظم، ولم يكن بهذا المقدار عند أحد من الرسل الكبار، إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع في الأخبار.
وأما التواضع البدني للإمام عليه الصلوات والسلام فهو على قسمين واجب ومندوب.
أما الواجب منه فهو ما يؤدي تركه إلى هتك الإمام، والاستخفاف به (عليه السلام) كترك القيام عند ذكر اسم القائم في المجلس العام، بقصد الاستخفاف نعوذ بالله، مع قيام أهل المجلس لأن الاستخفاف بالإمام يستلزم الاستخفاف بالله عزّ وجلّ.
– وفي الوسائل عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال فمعنى الكفر كل معصية عصي الله بها بجهة الجهد والإنكار، والاستخفاف والتهاون، في كل ما دق وجل وفاعله كافر. الخبر.
وأما المندوب فهو غيره كالدعاء له والقيام عند ذكر اسمه والصلاة عليه وغير ذلك مما يدخل في عنوان التواضع.

(مکیال المکارم ؛ ج 1 ؛ محمد تقی الموسوی الاصبهانی)