تشرّف محمود الفارسيّ المعروف بأخي بكر بخدمة الامام عليه السّلام حين أشرف على الهلاك و نجاته من الهلكة، و الدخول في مذهب التشيّع‏:

حدث السيد المعظم المبجل بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشهيد الأول (734 – 786) في كتاب الغيبة عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ المحمود الحاج المعتمر شمس الحق و الدين محمد بن قارون قال دعيت إلى امرأة فأتيتها و أنا أعلم أنها مؤمنة من أهل الخير و الصلاح فزوجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر و يقال له و لأقاربه‏ بنو بكر و أهل فارس مشهورون بشدة التسنن و النصب و العداوة لأهل الإيمان و كان محمود هذا أشدهم في الباب و قد وفقه الله تعالى للتشيع دون أصحابه.
فقلت لها: وا عجباه! كيف سمح أبوك بك و جعلك مع هؤلاء النواصب و كيف اتفق لزوجك مخالفة أهله حتى ترفضهم؟ فقالت: يا أيها المقرئ! إن له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنها من العجب قلت و ما هي قالت سله عنها سيخبرك.
قال الشيخ: فلما حضرنا عنده قلت له: يا محمود! ما الذي أخرجك عن ملة أهلك و أدخلك مع الشيعة؟ فقال: يا شيخ! لما اتضح لي الحق تبعته اعلم أنه قد جرت عادة أهل الفرس أنهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم خرجوا يتلقونهم فاتفق أنا سمعنا بورود قافلة كبيرة فخرجت و معي صبيان كثيرون و أنا إذ ذاك صبي مراهق فاجتهدنا في طلب القافلة بجهلنا و لم نفكر في عاقبة الأمر و صرنا كلما انقطع منا صبي من التعب خلوه إلى الضعف فضللنا عن الطريق و وقعنا في واد لم نكن نعرفه و فيه شوك و شجر و دغل لم نر مثله قط فأخذنا في السير حتى عجزنا و تدلت ألسنتنا على صدورنا من العطش فأيقنا بالموت و سقطنا لوجوهنا.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض قد نزل قريبا منا و طرح مفرشا لطيفا لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة فالتفتنا إليه و إذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض و على رأسه عمامة لها ذؤابتان فنزل على ذلك المفرش ثم قام فصلى بصاحبه ثم جلس للتعقيب.
فالتفت إلي و قال: يا محمود! فقلت: بصوت ضعيف لبيك يا سيدي! قال‏: ادن مني! فقلت: لا أستطيع «2» لما بي من العطش و التعب. قال: لا بأس عليك.
فلما قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجددة فسعيت إليه حبوا فمر «3» يده على وجهي و صدري و رفعها إلى حنكي فرده حتى لصق بالحنك الأعلى و دخل لساني في فمي و ذهب ما بي و عدت كما كنت أولا.
فقال: قم و ائتني بحنظلة من هذا الحنظل و كان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسمها نصفين و ناولنيها و قال كل منها فأخذتها منه و لم أقدم على مخالفته و عندي «4» أمرني أن آكل الصبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلما ذقتها فإذا هي أحلى من العسل و أبرد من الثلج و أطيب ريحا من المسك شبعت و رويت.
ثم قال لي: ادع صاحبك! فدعوته فقال بلسان مكسور ضعيف لا أقدر على الحركة. فقال له: قم لا بأس عليك! فأقبل إليه حبوا و فعل معه كما فعل معي ثم نهض ليركب فقلنا بالله عليك يا سيدنا إلا ما أتممت علينا نعمتك و أوصلتنا إلى أهلنا فقال لا تعجلوا و خط حولنا برمحه خطة و ذهب هو و صاحبه. فقلت لصاحبي: قم بنا حتى نقف بإزاء الجبل و نقع على الطريق فقمنا و سرنا و إذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر و هكذا من أربع جوانبنا.
فجلسنا و جعلنا نبكي على أنفسنا ثم قلت لصاحبي ائتنا من هذا الحنظل لنأكله فأتى به فإذا هو أمر من كل شي‏ء و أقبح فرمينا به ثم لبثنا هنيئة و إذا قد استدار من الوحش ما لا يعلم إلا الله عدده و كلما أرادوا القرب منا منعهم ذلك الحائط فإذا ذهبوا زال الحائط و إذا عادوا عاد.
قال فبتنا تلك الليلة آمنين حتى أصبحنا و طلعت الشمس و اشتد الحر و أخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع و إذا بالفارسين قد أقبلا و فعلا كما فعلا بالأمس فلما أرادا مفارقتنا قلنا له بالله عليك إلا أوصلتنا إلى أهلنا فقال أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ثم غابا.
فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا و معه ثلاث أحمرة قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا و انهزم و ترك حميره فصحنا إليه باسمه و تسمينا له فرجع و قال يا ويلكما! إن أهاليكما قد أقاموا عزاءكما قوما لا حاجة لي في الحطب فقمنا و ركبنا تلك الأحمرة فلما قربنا من البلد دخل أمامنا و أخبر أهلنا ففرحوا فرحا شديدا و أكرموه و اخلعوا عليه.
فلما دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا فحكينا لهم بما شاهدناه فكذبونا و قالوا هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود ثم أنساني الدهر حتى كان لم يكن و لم يبق على خاطري شي‏ء منه حتى بلغت عشرين سنة و تزوجت و صرت أخرج في المكاراة و لم يكن في أهلي أشد مني نصبا لأهل الإيمان سيما زوار الأئمة علیهم السلام بسر من ‏رأى فكنت أكريهم الدواب بالقصد لأذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقة و غيرها و أعتقد أن ذلك مما يقربني إلى الله تعالى.
فاتفق أني كريت دوابي مرة لقوم من أهل الحلة و كانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي و ابن عرفة و ابن حارب و ابن الزهدري و غيرهم من أهل الصلاح و مضيت إلى بغداد و هم يعرفون ما أنا عليه من العناد فلما خلوا بي من الطريق و قد امتلئوا علي غيظا و حنقا لم يتركوا شيئا من القبيح إلا فعلوه بي و أنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك و قد امتلأ فؤادي حنقا.
فلما جاء أصحابي قمت إليهم و لطمت على وجهي و بكيت فقالوا ما لك و ما دهاك فحكيت لهم ما جرى علي من أولئك القوم فأخذوا في سبهم و لعنهم و قالوا طب نفسا فإنا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا و نصنع بهم أعظم‏ مما صنعوا.
فلما جن الليل أدركتني السعادة فقلت في نفسي إن هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم فما ذلك إلا لأن الحق معهم فبقيت مفكرا في ذلك و سألت ربي بنبيه محمد صلی الله علیه و آله أن يريني في ليلتي علامة أستدل بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم فإذا أنا بالجنة قد زخرفت فإذا فيها أشجار عظيمة مختلفة الألوان و الثمار ليست مثل أشجار الدنيا لأن أغصانها مدلاة و عروقها إلى فوق و رأيت أربعة أنهار من خمر و لبن و عسل و ماء و هي تجري و ليس لها جرف «5» بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت و رأيت نساء حسنة الأشكال و رأيت قوما يأكلون من تلك الثمار و يشربون من تلك الأنهار و أنا لا أقدر على ذلك فكلما أردت أن أتناول من الثمار تصعد إلى فوق و كلما هممت أن أشرب من تلك الأنهار تغور إلى تحت فقلت للقوم ما بالكم تأكلون و تشربون و أنا لا أطيق ذلك فقالوا إنك لا تأتي إلينا بعد.
فبينا أنا كذلك و إذا بفوج عظيم فقلت ما الخبر فقالوا سيدتنا فاطمة الزهراء علیها السلام قد أقبلت فنظرت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة ينزلون من الهواء إلى الأرض و هم حافون بها فلما دنت و إذا بالفارس الذي قد خلصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل قائما بين يدي فاطمة علیها السلام فلما رأيته عرفته و ذكرت تلك الحكاية و سمعت القوم يقولون هذا م‏ح‏م‏د بن الحسن القائم المنتظر فقام الناس و سلموا على فاطمة علیها السلام.
فقمت أنا و قلت السلام عليك يا بنت رسول الله فقالت و عليك السلام يا محمود أنت الذي خلصك ولدي هذا من العطش فقلت نعم يا سيدتي فقالت إن دخلت مع شيعتنا أفلحت فقلت أنا داخل في دينك و دين شيعتك مقر بإمامة من مضى من بنيك و من بقي منهم فقالت أبشر فقد فزت.
قال محمود: فانتبهت و أنا أبكي و قد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي و ظنوا أنه مما حكيت لهم فقالوا طب نفسا فو الله لننتقمن من الرفضة فسكت عنهم حتى سكتوا و سمعت المؤذن يعلن بالأذان فقمت إلى الجانب الغربي و دخلت منزل أولئك الزوار فسلمت عليهم فقالوا لا أهلا و لا سهلا اخرج عنا لا بارك الله فيك فقلت إني قد عدت معكم و دخلت عليكم لتعلموني معالم ديني فبهتوا من كلامي و قال بعضهم: كذب و قال آخرون: جاز أن يصدق.
فسألوني عن سبب ذلك فحكيت لهم ما رأيت فقالوا: إن صدقت فإنا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر علیهما السلام فامض معنا حتى نشيعك هناك فقلت سمعا و طاعة و جعلت أقبل أيديهم و أقدامهم و حملت إخراجهم و أنا أدعو لهم حتى وصلنا إلى الحضرة الشريفة فاستقبلنا الخدام و معهم رجل علوي كان أكبرهم فسلموا على الزوار فقالوا له افتح لنا الباب حتى نزور سيدنا و مولانا فقال حبا و كرامة و لكن معكم شخص يريد أن يتشيع و رأيته في منامي واقفا بين يدي سيدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها فقالت لي يأتيك غدا رجل يريد أن يتشيع فافتح له الباب قبل كل أحد و لو رأيته الآن لعرفته.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجبين فقالوا فشرع ينظر إلى واحد واحد فقال الله أكبر هذا و الله هو الرجل الذي رأيته ثم أخذ بيدي فقال القوم صدقت يا سيد و بررت و صدق هذا الرجل بما حكاه و استبشروا بأجمعهم و حمدوا الله تعالى ثم إنه أدخلني الحضرة الشريفة و شيعني و توليت و تبريت.
فلما تم أمري قال العلوي و سيدتك فاطمة تقول لك سيلحقك بعض‏ حطام الدنيا فلا تحفل به و سيخلفه الله عليك و ستحصل في مضايق فاستغث بنا تنجو فقلت السمع و الطاعة و كان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت و خلف الله على مثلها و أضعافها و أصابني مضايق فندبتهم و نجوت و فرج الله عني بهم و أنا اليوم أوالي من والاهم و أعادي من عاداهم و أرجو بهم حسن العاقبة.
ثم إني سعيت إلى رجل من الشيعة فزوجني هذه المرأة و تركت أهلي فما قبلت أتزوج منهم و هذا ما حكا لي في تاريخ شهر رجب سنة ثمان و ثمانين و سبعمائة هجرية وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و الصلاة على محمد و آله.

(الجنة المأوی؛ للمحدث النوری)