كانت سياسة العباسيين تجاه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تتمحور حول دمجهم بالجهاز الحاكم لامتصاص ثورة الشيعة من جهة ولضمان مراقبة الأئمة مراقبة دقيقة من جهة ثانية ولعزلهم عن قواعدهم ومحبيهم من جهة ثالثة، وكانت هذه السياسة قائمة منذ عهد الإمام الرضا (عليه السلام) الذي أجبره المأمون على قبول ولاية العهد، وكانت هذه السياسة العامة لا تمنع العباسيين من سجن الأئمة ودس السمّ لهم كلّما أحسّوا بالخطر.
ولقد بقيت هذه السياسة متّبعة حتّى عهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فكان كوالده مجبراً على الإقامة في سامرّاء، ملزماً بالحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس.
فتميز موقف الإمام العسكري (علیه السلام) من الحكّام بالاحتراس الشديد والحذر التّامّ، والاحتراس الشديد من هؤلاء الطغاة وعدم إثارة حفيظة هؤلاء، وإعطائهم أي مبرر للهجوم عليه، وإن كان مجرد وجود إمام من أئمّة أهل البيت سينغّص عيش هؤلاء الحكام ويثير حفيظتهم، فكيف بتخيل وجود شيعة له يحبّونه ويميلون إليه، ويطيعونه، فكيف لا تتأجج نار الغيرة منه والحقد عليه في قلوبهم؟! وخاصّة مع وجود الواشين عليه، والساعين لدى السلطان بالشرّ والوقيعة بالإمام وما أكثرهم!!
إن موقف الإمام هذا وحكمة سلوكه والتزام الحيطة والحذر في كل تصرفاته إضافة إلى تقواه وهيبته، أكسبته احترام الحكّام والوزراء والقواد رغم ما لاقى على أيديهم من الحبس والتشريد وأنواع الأذى، حتى أن من أشدّ الناس حقداً على الإمام وانحرافاً عن أهل البيت (عليهم السلام)، أحمد بن عبيد الله بن خاقان الوزير الأول للمعتمد العباسي، كان يقول:
ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا، في هديه وسكونه، وعفافه ونبله عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر. وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامّة الناس ولم أر له وليّاً ولا عبداً إلا ويحسن القول فيه والثناء عليه.
قدم الإمام (عليه السلام) على الصعيد العام جهداً كبيراً ترك بصماته الواضحة على الحركة العلمية والنشاط الثقافي، تمثل في الردود المضخة على الشبهات الّتي ظهرت في عصره، وقد سلك في هذه الردود أسلوب المناقشات العلميّة والجدل الموضوعي والحوار الرصين، وإصدار البيانات وتأليف الكتب غير ذلك من الأساليب.
ومن ذلك بياناته العلميّة لتلميذه أبي هاشم الجعفري في مسألة خلق القرآن وفي مسائل تفسير القرآن وإحباطه لمشروع الكتاب الذي كان فيلسوف زمانه أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي يزمع كتابته حول ما سماه (متناقضات القرآن)، حيث استطاع الإمام بأسلوبه العلمي الرصين أن يقنع الكندي بخطأ أفكاره مما دفعه إلى التوبة وإحراق أوراقه تلك.
كما قدم الإمام على صعيد الخاص جهداً كبيراً آخر تمثّل في الإشراف على قواعده الشعبيّة ذات الوزن السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ المتعاظم، ولم يمنعه تضييق الحكام عليه، ومراقبتهم الشديدة لتحركاته، من تنظيم هذه القواعد وحماية وجودها ومدها بكل أسباب البقاء والنمو، والصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.
وفي هذا السبيل كوّن شبكة التواصل السري بينه وبين هذه القواعد، ومتّن نظام الوكلاء الذين كانوا يؤدون إليه، ويؤدون عنه بأمره، وبواسطة هؤلاء الوكلاء كانت كل أخبار وأحوال شيعته تصل إليه، وكل إرشاداته وتعاليمه تصل إليهم، وبواسطة هؤلاء الوكلاء تم تنظيم الأمور الاقتصاديّة والمعاشيّة لشيعته، وانتقال الأموال منهم إليه ومنه إليهم طبقاً للحاجات والمصالح التي كان يراها، وكل ذلك بسرية تامّة وبأساليب وطرق تخفى على السلطة رغم شدّة مراقبتها، وبذله أقصى الجهد لكشف أساليب الإمام في هذا المجال.
كما كان يحذر أصحابه عند كل بادرة تتحرك ضدّهم، فيأمرهم بوقف النشاط والكف عن الحركة، ريثما يزول الخطر وتستقر الأمور، وقد فعلت السلطة الكثير من أجل فتنة أصحاب الإمام وشرذمتهم وتمييع أطروحة الإمام لدى قواعده. واعتمدت في سبيل ذلك وسيلتي الترغيب والترهيب بأبعد وأشمل ما تعنيانه كشراء الضمائر بالمال، والوعد بالعيش الرغيد، وزجّ الناس في السجون والمعتقلات، وصب أنواع الحرمان والعذاب والتشريد والقتل عليهم، فكان الإمام يكتب مثلاً لأصحابه محذراً: (فتنة تظلكم، فكونوا على أهبة) ، أو يقول لهم: (الفقير معنا خير من الغني مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا، نحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استبصر بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى، ومن انحرف عنا فإلى النار).
كان خط الإمام مناقضاً ومعارضاً لخط الحكّام، فلكلّ من الخطّين أطروحته الفكريّة والسياسيّة، وكان الحكّام على ثقة تامّة من زيف أطروحتهم وسلامة أطروحة الإمام، والقاعدة العريضة الواسعة الّتي تؤمن بخطّته وأطروحته، ولذلك كانوا لا يغفلون عن مراقبة الإمام مراقبة دقيقة ولا يتوانون عن محاسبته ومسألته عن كل بادرة نشاط أو تحرك مهما كانت صغيرة، بل حتى ولو كانت مجرد تهمة ملفقة أو وشاية كاذبة. ولما كانت الروايات مستفيضة في أخبار الأئمّة الاثني عشر، ومنذ غيبة الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حتّى يحين أوان دولته الكبرى، ويأذن الله بظهوره المبارك من جديد، وكان حكام بني العباس يعلمون أن ظهور الإمام المهدي إنّما يعني القضاء على سلطانهم وذهاب ريح دولتهم، فقد جدّ هؤلاء الحكام بمراقبة الإمام الحسن العسكري بشكل خاصّ ومراقبة زوجاته وحملهن وولادتهن ليقضوا على الإمام قبل أن يولد إن استطاعوا، وإلا ففي حين الولادة، حتى لا تكون هناك أي فسحة لغياب الإمام الثاني عشر.
ومن هنا فقد بدأ الإمام العسكري يخطط لهذا الأمر على كل الأصعدة، ذلك أن فكرة غياب الإمام صعبة التقبل لدى القواعد الشعبية، والطلائع المؤمنة، لأنه حدث غير عادي، وأمثلته في التاريخ نادرة جداً، والأخبار عنها قليلة ومقتضبة، كما أن مجرد وجود الإمام بين أنصاره وأتباعه أُنس لهم وتثبيت لقلوبهم ووحي لهم بالأمل بنصر قريب، أما غيابه عنهم فيحرمهم من الأنس به وتثبيت قلوبهم بوجوده المبارك ويهز في نفوسهم فكرة الأمل بالنصر مشروعاً مع وقف التنفيذ إلى أجل غير محدد ولا معروف ولا قريب.
ورغم النصوص الكثيرة المتوالية، التي جاءت تبشر بالمهدي عليه السلام، وتتحدث عن غيبته، وعن ظهوره وعن دولته المباركة، التي ستملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، تلك النصوص المتواترة الصحيحة عن النّبيّ صلى الله عليه وآله، والّتي رواها إضافة إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، عامّة المحدثين والرواة، وفيهم البخاري ومسلم، والنسائي والترمذي وابن حنبل وغيرهم، وأثر كل تلك الروايات في ترسيخ فكرة انتظار المهدي خلال فترة غيبته، في نفوس المسلمين بشكل عام، إلا أن أمر غيبة الإمام يبقى صعباً وخاصّة لدى شيعته ومواليه، ولذلك كان لابدّ للإمام الحسن العسكري أن يمهد لهذا الموضوع ويخطط له ويعد له عدّته اللازمة حتّى يهيئ أذهان الناس لاستقبال موضوع حلول وقت الغيبة وزمانها دون رفض أو إنكار أو ردود أفعال تضر بتماسك القواعد الشعبية وخاصة طلائعها المؤمنة، ثم تجسيد موضوع الغيبة في شخص ولده المهدي دون أن يعرض ابنه لأي خطر من قبل الحكام.
والواقع أن الخطوات التمهيديّة التي قام بها الإمام بدأت في وقت مبكر، فمنذ زواج الإمام الحسن عليه السلام، ن تلك المرأة الصالحة المملوكة الّتي قدّر الله لها أن تكون أماً للإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه، بدأ يطلق عليها أسماء مختلفة تمويها بذلك على السلطات، فلا تعرف السلطات من هذه الأسماء أي منها المسجون وأي منها الطليق، وأي منها الحامل وأي منها الّتي ولدت لأن تعدّد الأسماء يشعر بتعدّد النّساء ويبعد احتمال تعدّد الأسماء في امرأة واحدة، وقد نجحت هذه الخطة نجاحاً باهراً، حيث استطاع الإمام أن يخفي نبأ ولادة ابنه الإمام المهدي (عليه السلام) أغلب جميع خدمه وأهل بيته وأقاربه.
وهنا تبدأ مرحلة مهمة تتسم بالحذر الشديد، والدقّة البالغة في التكتم على ولادة المهدي مع قيام الإمام في نفس الوقت بواجب التعريف به والإشارة إليه واثبات وجوده تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلاميّة وتجاه قواعده ومواليه.
ومن هنا فقد كتب الإمام الحسن العسكري لأحمد بن إسحاق وكان من خاصته يقول له: ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً.
ثم جعل يشير الإمام بعض خاصته إلى ولده دون أن يصرح باسمه ويقول: (هذا صاحبكم).
وقبيل وفاة الإمام الحسن العسكري بأيام قليلة وفي مجلس في بيته حضره أربعون من خُلّص خاصته، أظهر الإمام ابنه المهدي أمامهم وعرضه عليهم جميعاً وهو يقول: (هذا صاحبكم بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تُمدّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً، خرج فملأها قسطاً وعدلاً).
ويعتبر هذا أصرح وأوضح بيان للإمام الحسن العسكري تضمن عدّة ثوابت منها:
ـ وجود الإمام المهدي الفعلي (عليه السلام)، وكان يومئذ قد أنهى الخامسة من عمره الشريف.
ـ التصريح بإمامته وخلافته بعد أبيه.
ـ النصّ على غيبته ووجوب انتظار ظهوره.
وكان الإمام الحسن العسكري قد قام قبل هذا بتمهيد آخر، حيث عوّد أصحابه من خلاله على فكرة الغيبة، واختبر كذلك متانة نظام الوكلاء الذين تكونت منهم شبكة التواصل السري بين القيادة والقاعدة، ذلك التمهيد الآخر تمثل باحتجاب الإمام الحسن العسكري نفسه عن قواعده.
لقد كان لهذا الاحتجاب أهميّة خاصّة، إذ قرب لأتباعه مفهوم الغيبة، وعوّدهم على عدم رؤية الإمام، وعلمهم كيفية الأداء إليه والتلقي منه عن طريق شبكة التواصل السري تلك التي تمثلت بنظام الوكلاء، بحيث انتظمت أمور تلك الشبكة، واستقر أمر نظام الوكلاء هؤلاء، الّذين كانوا ينقلون إلى الإمام مكاتبات وقضايا ومسائل وقواعده ويعودون إلى هذه القواعد بتوقيعات الإمام على المسائل وردوده على المكاتبات وحلوله لتلك القضايا والمشكلات.
ذلك النظام، كان من المهم جداً أن تسد كل ثغراته وأن يرسخ ويستقر لأن الإمام الابن بهذا النظام الذي رسخه الإمام الأب، وسيكون خير أسلوب له خلال فترة غيبته الصغرى على الأقل، فإذا حل موعد غيبته الكبرى عن جميع أفراد شيعته دون استثناء، والتي ستدوم حتى زمان الظهور المبارك، وقيام دولة الحقّ، فسيصبح أمر هؤلاء الأتباع المنتشرين على كل أرض من رقعة العالم الإسلامي، في أيدي علماء أتقياء أمناء، أتقنوا فقه الأئمّة وأحسنوا حفظ حديثهم وروايته، وذلك حسب الرواية المعروفة عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن جدّه الإمام الصادق (عليه السلام): (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه).
وهكذا رسخ الإمام الحسن العسكري لمواليه من الشيعة نظام المرجعية الرشيدة حيث تعاظم دور علماء الشيعة كوكلاء ونواب وسفراء عن الإمام المعصوم، تلك المرجعيّة الرشيدة الّتي لا تزال حتّى يومنا هذا تمارس دورها المرسوم مهتدية بأنوار أهل البيت (عليهم السلام).
ونختم بحثنا هذا بوصايا للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كتب إحداهما إلى الفقيه المشهور ابن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق يقول له فيها:
. . . وأوصيك بمغفرة الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، ومواساة الإخوان، والسعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عن الجهل، والتفقه في الدين، والترتيب في الأمور، والتعهد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش كلها، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، من استخف بصلاة الليل فليس منا. فاعمل بوصيتي، وأمر شيعتي أن يعملوا بها، وعليك بانتظار الفرج، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله) أنه يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
الوصية الثانية لعموم شيعته، وجاء فيها:
أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار… صلّوا في عشائرهم (أو قال: مساجدهم) واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك، اتقوا الله وكونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل عنا من سوء فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذّاب… احفظوا ما وصيّتكم به، واستودعكم الله، واقرأ عليكم السلام.

(نقلا عن: مرکز آل البیت العالمی للمعلومات)