كل من آمن بالأحاديث المتواترة الصحيحة المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول قضيّة الإمام المهدي (عليه السلام) فمن الواجب عليه أن يؤمن ويعترف بولادته، إذ من المستحيل ـ عقلاً وعرفاً ـ أن تكون هذه الأخبار والأحاديث صحيحة وأن يكون الإمام المهدي لم يولد بعد.
فقد ولد الإمام (عليه السلام) في جو من الكتمان والخفاء في وقت السحر من ليلة النصف من شعبان سنة 255 هجرية في مدينة سرّ من رأى.
روى الشيخ الصدوق في (كمال الدين وتمام النعمة) بإسناده: عن حكيمة (بنت الإمام الجواد عليه السلام) قالتْ: بعث إليَّ أبو محمد الحسنُ بن علي (عليه السلام) فقال: يا عمَّة إجعَلي إفطاركِ الليلة عندنا، فإنها ليلة النصف من شعبان، وإنَّ الله تبارك وتعالى يظهر في هذه الليلة الحجَّة، وهو حجَّته في أرضه ـ وفي رواية: فإنه سيولد ـ الليلة ـ المولود الكريم على الله عزَّ وجلّ، الذي يحيي الله (عزَّ وجلّ) به الأرض بعد موتها.
قالت (حكيمة): فقلت: ومَن أُمّه؟ قال لي: نرجس. قلتُ له: جَعَلَني الله فداك ما بها أثَر! فقال: هو ما أقول لكِ. قالتْ: فجستُ فلما سَلَّمت وجلست جاءَتْ (نرجس) تَنْزع خُفِّي وقالت لي: يا سيّدتي وسيّدة أهْلي كيف أمْسَيتِ؟ فقلتُ: بل أنتِ سيّدتي وسيّدة أهلي. فأنكَرَتْ قولي وقالت: ما هذا يا عمَّة؟!
وفي رواية أُخرى: فجاءتني نرجس تَخلع خُفِّي، فقالت: يا مولاتي ناوليني خُفَّكِ، فقلتُ: بل أنتِ سيدتي ومولاتي، والله لا أدفَعُ إليكِ خُفِّي لتَخْلَعيه، ولا لتَخْدِميني، بل أنا أخدمُكِ، على بَصَري. فسمع أبو محمد (عليه السلام) ذلك، فقال: جزاكِ الله ـ يا عمَّة ـ خيراً.
قالت حكيمة: فقلتُ لها: يا بُنيَّة إنَّ الله سَيَهَبُ لكِ ـ في ليلتِكِ هذه ـ غُلاماً سيداً في الدنيا والآخرة، فجلسَتْ (نرجس) واْستحيَتْ، فلما أنْ فرغتُ من صلاةِ العشاء أفطرتُ وأخذْتُ مَضْجَعي فرقدتُ، فلما كان في جوف الليل قُمْتُ إلى الصلاة، ففرغتُ من صلاتي وهي (أي: نرجس) نائمة ليس بها حادث، ثم جلستُ مُعقِّبة، ثم اْضطَجَعْتُ، ثم اْنتبهتُ فَزِعَةً وهي راقدة، ثم قامت فصَلَّتْ، فدخَلَنْي الشكوك، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) من المجلس (أي: مِن حُجْرته التي كان جالساً فيها): لا تَعْجَلي يا عمَّة فإنَّ الأمر قد قَرُب.
وفي رواية: فَوَثَبَتْ سَوْسَن (أي: نرجس) فَزِعَةً، وخرجتْ وأَسْبَغَتِ الوضوء، ثم عادتْ فصَلَّت صلاة الليل حتى بَلَغَتِ الوتْر فوقَعَ في قلبي أنَّ الفَجْر قد قَرُب، فقُمْتُ لأنظر، فإذا بالفَجْر الأول قد طلع فتداخَل قلبي الشكُ مِن وَعْد أبي محمد عليه السلام فناداني من حُجْرته: لا تَشُكِّي.
فاْستَحْيَيْتُ مِن أبي محمد وممّا وقع في قلبي، ورجعتُ إلى البيت وأنا خَجِلة، فإذا هي (أي: نرجس) قد قطَعتْ الصلاة، وخرجَتْ فزعة، فلقيتُها على باب البيت، فقلت لها: هل تحسِّين شيئاً مما قلتُ لكِ؟
قلتْ: نعم يا عمَّة! إنِّي أجدُ أمْراً شديداً.
قلتُ: إسمُ الله عليكِ، إجمعي نفسَكِ، واْجمعي قلبكِ فهو ما قلتُ لك، لا خوفَ عليكِ إن شاء الله، فأخذْتُ وسادةً فالقيتُها في وسَط البيت، وأجلَسْتُها عليها، وجلستُ منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة، فقَبضَتْ على كَفَّي وغَمَزَتْ غَمْزاً شديداً ثم أنَّتْ أنَّةً وتَشهَّدَتْ، فصاح بي أبو محمّد عليه السلام وقال: إقرئي عليها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فأقبلتُ أقرأُ عليها كما أمَرَني، فأجابَني الجنينُ مِن بطنها يقرأ كما أقرأ، ففَزِعْتُ لما سمعتُ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام: لا تَعْجَبيْ مِن أمرْ الله (عزَّ وجلَّ) إنَّ الله (تبارَكَ وتعالى) يُنطِقُنا بالحِكْمة صِغاراً، ويَجلنا حُجَّةً في أرْضِه كِباراً، فلم يستتمّ الكلام حتى غُيِّبَتْ غنِّي نرجس، فلم أرَها، وأخذتْها فترة فعَدَوْتُ نحو أبي محمد عليه السلام وأنا صارخة، فقال لي: إرجعي يا عمَّة! فإنَّكِ ستجدينها في مكانها. فرجعتُ فلم ألبَثْ أنْ كُشِفَ الحجاب الذي بيني وبينها، وإذ أنا بها وعليها مِن أثَر النور ما غشى بَصَري، وإذا أنا بوليِّ الله (صلوات الله عليه) مُتَلَقِّياً الأرضَ بِمَساجِدِه ـ وعلى ذارعه الأيمن مكتوب: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) ـ وهو (أي الإمام حال كونه ساجداً) يقول: (أشهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ جدِّي محمداً رسولُ الله، وأنَّ أبي أميرَ المؤمنين وليُّ الله) ثم عَدَّ الأئمّة إماماً بعد إمام إلى أنْ بَلَغَ إلى نفسه، ثم قال: (اللهم أنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، وأتْمِمْ لي أمْري، وثَبِّتْ وَطْأتي واملأ الأرضَ بي عَدْلاً وقِسْطاً) ثم رَفَعَ رأسَه ـ من الأرض ـ وهو يقول: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ) ثم عَطَسَ فقال: (الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله، زَعَمَتِ الظَلَمَةُ أنَّ حُجَّة الله داحِضَةٌ) لو أُذِنَ لنا في الكلام لَزال الشَك.
قالت حكيمة: فأخذْتُ فضَمَمْتُه إليَّ، وأجْلَستُه في حِجْري، فإذا هو نظيف مُنظَّف، فصاح بي أبو محمد عليه السلام: هَلُمِّي إليَّ باْبني يا عمَّة! فجِئتُ به إليه، أجلَسَه على راحَتِه اليُسرى، وجَعَلَ راحَتَه اليُمنى على ظَهْره، ثم أدخَلَ ـ الإمام العسكري ـ لسانَه في فيه، وأمرَّ يدَه على رأسه وعينيه وسَمْعه ومَفاصله، ثم قال له: تكلَّمْ يا بُنَي!! (وفي رواية: يا بُنَي انطق بقُدْرةِ الله تكلَّمْ يا حُجّة الله وبقيَّة الأنبياء، وخاتم الأوصياء، تكلَّمْ يا خليفة الأتقياء. فَتَشَهَّدَ الشهادتين وصلّى على النّبيّ والأئمّة الطاهرين واحداً بعد واحد، ثم سكتَ بعد وصوله إلى إسم أبيه، ثم اْستعاذَ مِن الشيطان الرجيم وتَلى هذه الآية: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
فناوَلَنيه أبو محمد عليهما السلام وقال: يا عمَّة رُدِّيه إلى أُمِّه كي تَقَرَّ عينُها ولا تَحْزَن أنَّ وَعْدَ الله حقٌ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون.
فرَرَدْتُه إلى أُمِّه، وقد إنفَجَرَ الفَجْر الثاني فصَليتُ الفريضة، ثم وَدَّعْتُ أبا محمد واْنصَرَفتُ.
وقد عق عنه الإمام العسكري بثلاثمئة عقيقة، وفي هذا دلالة على طول عمر الإمام (عليه السلام). فإنَّ العقيقة الواحدة إذا كانت نافذة المفعول في طول عُمْر المولود الطبيعي المتعارف ـ وهو ما بين السِتين والسبعين مثلاً ـ فإنَّ المولود الذي قدَّر الله تعالى له أن يعيش ألفاً ومئات السِنين ـ مع كثرة أعدائه ـ يتطلَّب أنْ يُعَقَّ عنه بمئات الذبائح لنفس الغَرَض.
ولا منافاة في أن يكون الله تعالى هو الحافظ والحارس للإمام المهدي (عليه السلام) خلال قرون حياته، وفي نفس الوقت يُعَقَّ عنه بهذه الكمية والعدد الوافر، تحقيقاً للهدف، لأن العقيق لها آثارها الوَضْعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كان عمله هذا سلام الله عليه إعلاماً لشيعته بولادة الإمام المهدي المنتظر وطول عمره الشريف (عليه السلام) ولم يكتف الإمام العسكري (عليه السلام) بل أمَرَ عثمان بن سعيد ـ وهو مِن أخَصِّ أصحابه ـ بأن يشتري عشرة الآف رِطْل من الخُبز، وعشرة الآف رِطْل من اللحم، ويوزِّعها على بَني هاشم لنفس الغَرَض. وربما أرسلَ الإمام العسكري (عليه السلام) شاةً مذبوحة إلى بعض أصحابه، وقال له: هذه منْ عقيقة إبني محمد.
وأرسل إلى إبراهيم ـ وهو مِن أصحابه ـ بأربعة أكْبش، وكتَبَ: بسم الله الرحمن الرحيم، عُقَّ هذه عن ابني محمد المهدي، وكُلْ، هَنَّأَكَ الله، وأطعِمْ مَن وجدتَ مِن شعيتنا.
ويُخبر الإمام العسكري (عليه السلام) بعضَ ثِقاة شيعته بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ويأمره بالكتمان، بل ويكتب رسالة إلى الشيخ أحمد ابن إسحاق القُمِّي ـ وهو مِن أجِلاّء أصحابه ـ يُبشِّره بولادة ولده الإمام المهدي (عليه السلام) بل ربما كان يُري ولدَه لبعض إصحابه الثقاة، تأكيداً لهذه الحقيقة، ومِن الأحاديث التالية يتَّضح ما نقول:
في كتاب (روى الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة) باسناده عن الحسن بن المنذر قال: جاءني يوماً حمزة بن أبي الفتح، فقال لي: البشارة! وُلد ـ البارحة ـ في الدار مولود لأبي محمد (عليه السلام) وأمَرَ بِكتْمانه، قلت: وما اْسمه؟ قال: سُمِّي بمحمد، وكُنِّيَ بجعفر.
وأيضاً في (نفس المصدر) عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القُمِّي قال: لما وُلدَ الخَلَفُ الصالح (عليه السلام) ورَدَ عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي (العسكري) عليه السلام إلى جدِّي أحمد بن إسحاق كتاب، فإذا فيه مكتوب بخَط يده (عليه السلام) الذي كان تَرِدُ به التوقيعات عليه وفيه: وُلدَ لنا مولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نُظْهِر عليه إلاّ الأقرب لقرابته، والولي لولايته، أحبَبْنا إعلامك ليسرّك الله به مِثْل ما سَرَّنا، والسلام.
وفي (المصدر أعلاه أيضا) بإسناده عن جعفر الفزاري عن جماعة من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي (العسكري) عليه السلام إبنَه ونحن في منزله، وكُنّا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه، ولا تتفرَّقوا من بعدي أديانكم فتهلكوا، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.
قالوا: فخرجنا من عنده، فما مَضَتْ إلاّ أيام قلائل حتى مضى أبو محمد (عليه السلام).
(نقلا عن: مرکز آل البیت العالمی للمعلومات)
أحدث وجهات النظر