ناظم العامة نظّم قول بعض علمائهم و قال :
و إن قيل من خوف الطغاة قد اختفى – فذاك لعمري لا يجوزه الحجر
و لا النقل كلا إذ تيقن أنه – إلى وقت عيسى يستطيل له العمر
و إن ليس بين الناس من هو قادر – على قتله و هو المؤيده النصر
و إن جميع الأرض ترجع ملكه – و يملأها قسطاً و يرتفع المكر!

و الجواب:
1- فالنقض بما فعله جده النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بعد بعثته و الأمر بالإنذار في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) من الاختفاء مع بعثته و رسالته و علمه بغلبته على المشركين.
قال برهان الدين علي الحلبي في “إنسان العيون)”المعروف بالسيرة الحلبية عن ابن إسحاق (رحمه الله) أن مدّة ما أخفى صلى الله عليه و آله و سلم أمره _ أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول يا أيها المدثر _ ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين أي كما تقدم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين و هم يصلون فنكروهم و عابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم بلحي بعير فشجه و هو أول دم أريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه و آله و سلم هو و أصحابه مستخفين في دار الأرقم _ إلى أن قال فكان عليه السلام و أصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم و يعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين أي و هذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه و آله و سلم استمر مستخفياً هو و أصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة و أعلن صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الرابعة و قيل مدة استخفائه صلى الله عليه و آله و سلم أربع سنين و أعلن في الخامسة _ انتهى.
و أخرج القسطلاني في “المواهب اللدنية” عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما زال النبي صلى الله عليه و آله و سلم مستخفياً حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فجهر هو و أصحابه، إلى أن قال: قالوا و كان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، و هي المدة التي أخفى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أمره.
و قال: فضل بن روزبهان في كتابه: لما بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و استولى الكفار على المسلمين و ضعف أمر الإسلام اختفى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في بيت الأرقم مخافة سطوة الكفار و لم يقدر أحد أن يظهر الإسلام و دعا رسول الله: اللهم أعز الإسلام بأبي الحكم أو بعمر بن الخطاب، فوقع الدعاء فأسلم عمر صبيحة ليلة دعا فيها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و دخل على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هو كمل الأربعين لأن بإسلامه تكمل عدد المسلمين بأربعين و قال لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول الله اللات و العزى يعبدان علانية و يعبد الله سراً _ انتهى.
و قال القاضي حسين في “تاريخ الخميس” نقلاً عن “معالم التنزيل”: و لما كثر أنواع الأذى من المشركين استتر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه في دار الأرقم بن أسد إلخ. ثم استتاره و اختفاؤه صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه و عشيرته في الشعب سنين عديدة قهراً من المشركين ثمّ ما وقع له صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك من التستر و الاختفاء في الغار و الخروج سراً منه إلى طيبة.
و يأتي على أفعاله صلى الله عليه و آله و سلم في هذه المقامات ما أورده على اختفاء المهدي عليه السلام إذا لا فرق بين اليوم و السنة و السنين و الاختفاء عن الكل أو عن الجل بعد معلومية كونه رسولاً إلى الناس كافة و علمه بظهوره على المشركين و عدم قدرة أحد على قتله و إن الحجاز و اليمن و ما والاهما ترجع إلى ملكه فيما يعتذر به عنه صلى الله عليه و آله و سلم فخليفته أولى به.
2- فبالحل إذ تبين من السنن المستفيضة و الأحاديث المعتبرة التي ذكرنا نبذة منها أن الله عز و جل جعل لظهوره علامات و لخروجه آيات لابد منها فهو ممنوع من الخروج قبل ظهورها كجده رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قبل يوم بعثه مع بلوغه و كمال علمه بمقامه و ما عليه الناس من الكفر و الشرك و القبائح الظاهرة، أكان له صلى الله عليه و آله و سلم أن يأمر و ينهى و يحلل و يحرم قبل أن يؤمر بذلك، و هذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى البرهان.
و لا فرق في هذا بين القولين فإنه على القول الآخر لو ولد في أي عصر و بلغ حد الرشد و الكمال لا يقوم بالأمر قبل ظهور العلامات فلو ظهر قبله و خرج أمر و نهى و قاتل و قتل كان عاصياً ظالماً و لا مؤيد و لا ناصر له من الله، قال الله تعالى (وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)، و يخرج عن قابلية الخلافة و الإمامة. قال تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، و من عصى فقد ظلم، و من ظلم يكون مخذولاً لا منصوراً و لا يمكن الجمع بين الظلم و النصرة من الله إلا أن يجوزه الناظم لجمعه بين الألف و اللام و الإضافة في قوله المؤيدة النصر. و مما ذكرنا يظهر ما في قوله:
و إن قيل من خوف الاذاة قد اختفى – فذلك قول عن معايب يفتر
إلى قوله:
ففي الهند أبدى المهدوية كاذب – و ما ناله قتل و لا ناله ضر
حلاً و نقضاً بفعل جده بل فعل كثير من الأنبياء و المرسلين.
قال محمّد بن مسعود الكازروني في “المنتقى” لما نزل قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على الصفا و نادى في أيام الموسم: يا أيها الناس إني رسول الله رب العالمين فرمقه الناس قالها ثلاثاً، ثم انطلق حتى أتى المروة ثم وضع يده في أذنه ثم نادى ثلاثاً بأعلى صوته يا أيها الناس إني رسول الله، ثلاثاً فرمقه الناس بأبصارهم و رماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه و تبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال لها المتكا _ الحديث وهو طويل. و هذا الجبل على فرسخ من مكة زادها الله شرفاً يسمى جبل النور وعلى ذورته حجر فيه موضع تستره صلى الله عليه و آله و سلم و اختفائه و بنى عليه قبة تشرفنا بزيارته.
و قال شيخ المؤرخين عليّ بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب في كتاب “إثبات الوصية” في آخر قصة نبي الله يوسف عليه السلام و كان له ابنان يقال لأحدهما أفراثيم و هو جد يوشع بن نون و الآخر ميشا فلما قرب وفاته أوحى الله عز و جل إليه إني مستودع نور الله و حكمته و جميع مواريث الأنبياء التي في يديك بيزر بن لاوى بن يعقوب فأحضر بيزر بن لاوى و جميع آل يعقوب و هم يومئذ ثمانون رجلاً، فقال لهم، إن هؤلاء القبط سيظهرون عليكم و يسومونكم سوء العذاب و نعوت الإمامة مكتوبة ثم ينجيكم الله و يفرج عنكم برجل من ولد لاوى اسمه موسى بن عمران طوال جعد رام مفلفل الشعر أحلج على لسانه شامة على عرفة أنفه شامة و لن يخرج حتى يظهر من قبله سبعون كذاباً و روى خمسون كل يدعي أنه هو ثم يظهر و ينصر الله بني إسرائيل وي فرج عنهم. و ساق ما وقع بعد يوسف. إلى أن ذكر ولادة موسى عليه السلام و ما فيها من الآيات قال: و نشأ في دار فرعون و كتمت أمه و أخته و القابلة خبره و ماتت القابلة و لم يعلم بخبره أحد من بني إسرائيل و اشتد أمر الشيعة في توقعه و انتظاره و كانوا يتجسسون عن خبره بالليل و النهار و غلظ عليهم سيرة فرعون و جنوده فخرجوا في ليلة مقمرة إلى فقيه لهم و كان الاجتماع عنده يتعذر عليهم و يخافون فقالوا له كنا نستريح إلى الأحاديث فحتى متى حتى متى، قال لهم لا تزالون في هذا أبداً حتى يأتي الله بموسى بن عمران و يظهر في الأرض.
و أخذ يصف لهم وجهه وطوله و حليته و علاماته إذ أقبل موسى و قد كان قد خرج إلى الصيد على بغلة له شهباء و عليه طيلسان خز فوقف عليهم فرفع العالم رأسه، فنظر إليه فعرفه فوثب إليه ثم قال له: ما اسمك يرحمك الله فقال له موسى بن عمران، فانكب على يده و رجليه فقبلهما و ثار القوم فقبلوا يده و رجله و قالوا: الحمد لله لم يمتنا حتى أراناك، فلم يزد أن قال: أرجو أن يعجل لكم الفرج فاتخذهم شيعة من ذلك اليوم.
ثمّ غاب بعد ذلك بضعة عشرة سنة ثم خرج من الدار إلى سفينة فوجد فيها رجلاً من شيعته. ثم ذكر قصة قتله القبطي و القصة الأخرى كما في الكتاب المجيد قال: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) بغير ظهر يركبه و لا خادم يخدمه حتى انتهى إلى أرض مدين و هي مسيرة بضعة عشر يوماً، فروى أنه صار إليها في ليلة واحدة و بضع يوم، فانتهى إلى أصل شجرة تحتها بئر القصة و ما أشبهها بقصة المهدي عليه السلام فإن موسى كان يعلم أنه النبي الموعود الذي يهلك فرعون و جنوده و ينجي بني إسرائيل من أيدي أعدائهم و شيعته يعرفونه بذلك و مع ذلك قال تعالى فيه: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) و قال: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، و قال حاكياً عنه: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) الآية.
كل ذلك لأنه لم يكن مبعوثاً مأموراً بإظهار الدعوة و تخليص شيعته من أيدي الظالمين، فكان خوفه ممدوحاً، و كذلك المهدي عليه السلام يعلم أنه الموعود الذي يملأ الأرض عدلاً و قسطاً و لكن لو ظهر قبل العلامات التي اعدّت له لا بدّ و أن يكون خائفاً إذ لا ناصر له من الله فلا جند له من أوليائه فيكون فريسة لكنه صائد.
و أما قوله الناظم:
ففي الهند أبدى المهدوية كاذب – و ما ناله قتل و لا ناله ضر
فمنقوض بجماعة ادعوا المهدوية و قتلوا و صلبوا و داروا برؤسهم، هذا محمّد بن عبد الله بن الحسن منهم انظر إلى السير مآل أمره و زعم بعضهم أن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ادعى المهدوية و فيه يقول الرجس الحكيم ابن العبا الكلبي:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة – و لم أر مهدياً على الجذع يصلب
و هذا الكذاب علي محمّد الشیرازی الملقب بالباب ادعى النيابة ثم المهدوية و أثار الفتنة فأخذ و حبس وضرب و صلب و رمي فقتل و طرح للكلاب فمزقته و هشمته و أكلت لحومه و شربت دماءه.
و كم له من نظير في الأعصار السابقة، مع أن فعل واحد كذاب متهور خاطر بنفسه و عرضها للمهلكة فسلم اتفاقاً خصوصاً في الهند الذي فيه من المذاهب الباطلة عند جميع أهل الملل ما لا يحصى، و لو كان ادعى الألوهية أيضاً ما ناله الضر لعدم تعرض أهل المذاهب بعضهم لبعض كيف يكون ميزاناً لجواز التعرض للضرر و الضرر المنهي عنه إلا في مورد أمر به الشارع فيرتفع النهي و مع عدمه كما في المقام فخروج ألف مهدي كاذب مدع سالم اتفاقاً لا يصير سبباً لجواز التعرض للضرر المنهي عنه و لا أجر على الصبر عليه، و ان الخروج قبل ظهور العلامات الكاشف عن عدم الرضا و الإذن من الله عز و جل له فيه منهى و لا يرتفع إلا بالعلامات لا بفعل أرباب الضلالات.
و أما قول الناظم:
و إن قيل هذا الاختفاء بأمر من – له الأمر في الأكوان و الحمد و الشكر
فذلك أدهى الداهيات و لم يقل – به أحد إلا أخو السفه الغمر
أ يعجز رب الخلق عن نصر حزبه – على غيرهم كلا فهذا هو الكفر
فهو من غرائب الكلام إذ فيه.
أولاً: إنه بعد تسلم أن سبب الاختفاء أمره تعالى و هو غير معلل بغرض و حكمة عند الناظم فلا محل للتفحص عن الحكمة و حصرها في العجز الموجب للكفران قيل به.
و ثانياً: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل و يأمر.
و ثالثاً: إنه على ما ذكره يلزم أن يكون الأنبياء و الأوصياء و الخلفاء و الأمراء و نوابهم في جميع الأوقات غالبين منصورين إذا جاهدوا الكفار و المشركين لأنه تعالى قادر على نصرهم و هم حزبه و جنده و قد قال تعالى: (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)، و إلا فيلزم نسبة العجر إليه تعالى عن نصرة جنده، و عليه فاللازم أن يكون بسط العدل من أوّل زمان خليفة الله آدم عليه السلام في الدنيا مبسوطة و رايات الكفر و الشرك و الظلم دائماً منكوسة!
و هذا مع كونه خلاف الوجدان لكثرة ما صدر من الكفار و المشركين من قتل الأنبياء و الأوصياء و جنودهم و أذاهم و أسرهم و حبسهم في الآبار و المطامير و تطريدهم و تشريدهم، و كفى في ذلك ما فعلوا بنبينا صلى الله عليه و آله و سلم بعد بعثته بمكة المشرفة من الأذى و الإهانة و في المدينة في غزوة أحد بما لا يتحمل المسلم سماعه، و ما وقع في وقعة الطف و وقعة الحرة و غيرها يوجب بطلان الثواب و العقاب المتوقفين على صدور الأفعال من العباد في مقام الطاعة و العصيان عن اختيار منهم المنافي لغلبتهم على أعداء الدين بغير الأسباب العادية المتعارفة التي امتحن الله تعالى عباده، قال تعالى: (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ).
و قد اتفق نصرة أوليائه بغير الأسباب العادية في بعض المواطن لبعض الحكم و المصالح، و هو غير مطرد بل المواطن التي نصرهم فيها كذلك بالنسبة إلى غيرها كالقطرة في البحر.
و ما أدري ما يقول الناظم في المواطن التي قتل فيها أولياؤه تعالى و غلبت جنوده و فنيت أحزابه، و في قصة التتار ما فيه عبرة للناظرين أيقول عجز الرب نعوذ بالله عن نصر جنده أو يذكر حكمة و مصلحة لا مفر له منه فكيف أغمض عنه في هذا المورد و النصر الذي وعد الله تعالى به أولياءه في جميع المواطن و لم يتخلف في موطن أبداً هو نصرهم بالحجة و البرهان و الحكمة و البيان و البينة و السلطان و إن غلبوا و ضربوا و حبسوا و قتلوا.
و رابعا: أنه كيف لم يتحمل أن يكون السبب في أمره تعالى مهدي هذه الأمة بالاختفاء ما لأجله أمر تعالى جملة من أنبيائه بالاختفاء و الغيبة من أممهم و كفى في المقام اختفاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع صاحبه في الغار إذ لا فرق بين الاحتياج إلى ذكر السبب بين الاختفاء في يوم أو سنة أو ألف و کما قال المسعودي في قصة موسى ما يقرب منه.
و قال أيضاً: و كان من قصة شعيب أن الله تعالى بعثه إلى قوم نبياً حين كبر سنه فدعاهم إلى التوحيد و الإقرار و الطاعة فلم يجيبوه فغاب عنهم ما شاء الله ثم عاد إليهم شاباً.
و خامساً: أنه بعد التأمل في المقدمات السابقة الواضحة بالنصوص المستفيضة لا بدّ من القول بوجود المهدي عليه السلام و غيبته، إذ بعد انحصار خلفائه في العلوم و الأسرار و الحكم الربانية و الهدايات الخاصة و الآيات الإلهية و الخصائص النفسانية في اثني عشر الذين ينطبق زمانه على زمانهم وفاته صلى الله عليه و آله و سلم إلى قيام الساعة الذين هم شركاء القرآن في وجوب التمسك به في أمور الدين و بقائهم ببقائه و الضلالة في المفارقة و التخلف عنه الذين من لم يعرف الموجود منهم في زمانه كان موته موتة الجاهلية الذين هم أمان الأرض و سبب قرارها و ثباتها و الذين هم السفن التي من تخلف عنها غرق و إن آخرهم المهدي عليه السلام، فإنه آخر الخلفاء و الأوصياء و الأئمة بالاتفاق، فلابد أن يكون موجوداً و إلا لزم خلو الأرض من الخليفة و الإمام و الأمان و السفينة و العدل من آل محمّد عليهم السلام.
و أخرج صدر الأئمة ضياء الدين أبو المؤيد الخوارزمي في “المناقب” من رواية أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي عن كميل بن زياد النخعي في حديث طويل عن علي عليه السلام يقول في آخره: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة.
قال: و في رواية أبي عبد الله: بلى لن تخلو الأرض من قائم بحجة كي لا تبطل حجج الله و بيناته، أولئك الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه حتى يودعها إلى نظرائهم و يزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا مما استوعر منه المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحهم معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في عباده و الدعاة إلى دينه آه آه شوقاً إليهم استغفر الله لي ولك إذا شئت فقم _ انتهى.
فيكون هو الحجة أيضاً و لولاه لبقيت الأرض بلا حجة لا سكون و لا قرار لها بغير الخليفة و الأمان من آل محمّد عليهم السلام و ذهب الدين و ذهب أهلها و لا قائل أنه غيره بعد وجوب الالتزام بطول عمر أحد الخلفاء الإثني عشر رعاية للتطبيق اللازم من كلامه صلى الله عليه و آله و سلم فإنهم بين من أعرض عن ظاهر تلك النصوص و ذكر لها تأويلات بعيدة من غير شاهد و لا داع لصرفها عن ظاهرها و بين من تلقاها بالقبول و أخذ بظواهرها و عندهم الموجود منهم هو الحجة بن الحسن عليه السلام فاحتمال أن يكون الطويل العمر منهم غيره فاسد، مضافاً إلى نص كل واحد من آبائه الذين أوّلهم أمير المؤمنين علي عليه السلام على من بعده إلى التاسع من ولد الحسين عليه السلام و النصوص عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و قد تقدم بعضها.
و أخرج العارف الكامل السيد علي الهمداني الشافعي في كتاب “المودة في القربى” بإسناده عن عباية بن ربعي قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنا سيد النبيين و علي سيد الوصيين و إن أوصيائي بعدي إثنا عشر أولهم علي و آخرهم القائم المهدي.
و عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الحسين عليه السلام على فخذه و هو يقبل عينيه وفاه و يقول: أنت سيد ابن سيد أنت إمام ابن إمام أن حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم.
و عن أصبغ بن نباتة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: أنا و علي و الحسن الحسين و تسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون.
و عن علي عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من أحب أن يركب سفينة النجاة و يتمسك بالعروة الوثقى و يعتصم بحبل الله المتين فليوال علياً بعدي و ليعاد عدوه و ليأتم بالأئمة الهداة من ولده فإنهم خلفائي و أوصيائي و حجج الله على خلقه بعدي و سادات أمتى وقادة الأتقياء إلى الجنة حزبهم حزبي و حزبي حزب الله و حزب أعدائهم حزب الشيطان.
و قال ابن حجر في “الصواعق” أخرج الثعلبي في تفسيره عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: نحن حبل الله الذي قال الله (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا).
و كان جده زين العابدين إذا تلا قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يقول دعاء طويلاً يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين و الدرجات العالية و على وصف ما انتحلته المبتدعة المفارقون لأئمة الدين و الشجرة النبوية ثم يقول: و ذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا و احتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم و اتهموا مأثور الخبر _ إلى أن قال: فالى من يفزع خلف هذه الأمة و قد درست أعلام هذه الملة و دانت الأمة بالفرقة و الاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً و الله تعالى يقول: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة و تأويل الحكم إلى أهل الكتاب و أبناء أئمة الهدى و مصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده و لم يدع الخلق سدى من غير حجة هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة و بقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً و برأهم من الأفات و أفترض مودتهم في الكتاب _ إلى غير ذلك.
و إذا ثبت وجود المهدي عليه السلام لزمه الاختفاء، لأن الغرض الأصلي من بعثه هو تطهير الأرض من أرجاس الكفار و المشركين و المنافقين و قطع دابر الظالمين في تمام الأرض و انجاز وعده تعالى عباده المؤمنين في قوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).
فإن هذه الأمور أيّ الاستخلاف في الأرض و التمكين من إقامة تمام ما يتعلق بالدين المرضي و عدم الخوف في إقامته من أحد و عبادة الله تعالى جهراً من غير خوف في أي موضع لم يتحقق في عصر من بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى عصرنا حتى في عصر الخلفاء الأربعة لارتداد كثير من الأعراب و الفتن التي كانت تثور في أيامهم و الحروب التي كانت بينهم و بين المشركين، مع إن أكثر من في الأرض كانوا كفاراً بل في كثير من بلاد المسلمين كان الغالب فيها المشركون، و عدم تبين كثير من أمور الدين الذي ارتضاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله وسلم لكثرة الاختلاف البالغ إلى تفسيق المسلمين بعضهم بعضاً و تكفيرهم كذلك و كل يدعي التمسك بالدين المرضي الذي لا تعدد فيه، و أين هذا من ظاهر الآية الشريفة، و إنما ينجز هذا الوعد في قوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بظهور المهدي عليه السلام فيظهر الحق و يمكن المؤمن من أخذه و العمل به و يذهب الاختلاف و يزول الخوف بزوال الأعداء من كل طبقة و النفاق و الشك و الشبهة بل حب الرئاسة و العلو و الجاه من القلوب فإن كلها مثيرة للفتن النافية للتمكين و الأمن.
فلا بدّ من مضي زمان تخرج ودائع الله من أصلاب الذين لو ظهر المهدي لأزالهم عن وجه الأرض و تخرج الودائع الذين استخصلهم الله و اصطفاهم و زكاهم و طهرهم لمهديه و حجته و منتقمه من أعدائه فلابد له من الاختفاء في طول هذه المدة لكثرة أعدائه و هم كل محب للدنيا العاكف على ملاذها من كل طبقة الذين وجود المهدي ينافي غرضهم منها و استمتاعهم بها و هم أكثر من في الأرض حتى كثير ممن يعتقد إمامته و يظهر محبته ممن رسخ حب الدنيا في سويداء قلوبهم لا يعلمون به إلا بعد الامتحان و الابتلاء و الفتن فلو ظهر و لما بلغ الكتاب أجله كا معرضاً لنفسه للهلكة من غير عاصم من الله تعالى و هذا واضح لمن أنصف من نفسه و من وراء ذلك حكم و أسرار لا يعلمها إلا الله تعالى.
و من جميع ما ذكرنا ظهر أن أدهى الداهيات نسبة الناظم العجز إلى الله جلت قدرته في عدم نصرته نبيه صلى الله عليه و آله و سلم في أيام بعثته في المواطن التي عذبه المشركون بأنواع العذاب من الشتم و الهجو و الضرب و الرمي بالأحجار و إدماء جبهته الشريفة و رجليه في يوم الطائف و الحبس في الشعب بل الغار و غيرها لأنه لا يرى سبباً لعدم نصرته حزبه و جنده إلا العجز و هذه المقامات كلها ظاهرة وجدانية.

(راجع کشف الاستار عن وجه الغائب عن الابصار؛ الشیخ میرزا حسين النوري الطبرسي)