تشرّف الحاجّ عليّ البغدادي بلقائه عليه السّلام.

و قال أدام الله أيام سعادته في كتابه إلي حكاية أخرى‏ اتفقت لي أيضا و هي أنى منذ سنين متطاولة كنت أسمع بعض أهل الديانة و الوثاقة يصفون رجلا من كسبة أهل بغداد أنه رأى مولانا الإمام المنتظر سلام الله عليه و كنت أعرف ذلك الرجل و بيني و بينه مودة و هو ثقة عدل معروف بأداء الحقوق المالية و كنت أحب أن أسأله بيني و بينه لأنه بلغني أنه يخفي حديثه و لا يبديه إلا لبعض الخواص ممن يأمن إذاعته خشية الاشتهار فيهزأ به من ينكر ولادة المهدي و غيبته‏ أو ينسبه العوام إلى الفخر و تنزيه النفس و حيث إن هذا الرجل في الحياة لا أحب أن أصرح باسمه خشية كراهته‏ «1».
و بالجملة فإني في هذه المدة كنت أحب أن أسمع منه ذلك تفصيلا حتى اتفق لي أني حضرت تشييع جنازة من أهل بغداد في أواسط شهر شعبان من هذه السنة و هي سنة اثنتين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية الشريفة في حضرة الإمامين مولانا موسى بن جعفر و سيدنا محمد بن علي الجواد سلام الله عليهما و كان الرجل المزبور في جملة المشيعين فذكرت ما بلغني من قصته و دعوته و جلسنا في الرواق الشريف عند باب الشباك النافذ إلى قبة مولانا الجواد ع فكلفته بأن يحدثني بالقصة فقال ما معناه.
فسألته أن يكتب الى فقال انى سمعتها منذ سنين و لعله سقط عنى منها شي‏ء و صاحبها موجود نسأله مرة اخرى حتّى نكتبها كما هي الا أن لقائى إياه صعب جدا فانه منذ اتفقت له هذه القصة قليل الانس بالناس إذا جاء من بغداد للزيارة يدخل الحرم و يزور و يقضى وطره و يرجع الى بغداد و لا يطلع عليه أحد فيتفق أنى لا أراه في السنة إلا مرة او مرتين في الطريق.
فقلت له سلمه اللّه: انى أزور المشهد الغروى و أرجع إلى آخر الشهر و نرجو من اللّه أن يتفق لقاؤكم إيّاه في هذه المدة.
ثمّ قمت من عنده و دخلت منزلى فدخل على سلمه اللّه بعد زمان قليل من هذا اليوم و قال كنت من منزلى فجاءنى شخص و قال: جاءوا بجنازة من بغداد في الصحن الشريف و ينتظرونك للصلاة عليه فقمت و ذهبت معه و دخلت الصحن و صليت عليها و إذا بالمؤمن الصالح المذكور و هو فيهم، الى آخر ما ذكره أيده اللّه تعالى و هذه من بركات الحجة عليه السلام، منه رحمه اللّه.
أنه في سنة من سني عشرة السبعين كان عندي مقدار من مال الإمام علیه السلام عزمت على إيصاله إلى العلماء الأعلام في النجف الأشرف و كان لي طلب على تجارها فمضيت إلى زيارة أمير المؤمنين سلام الله عليه في إحدى زياراته المخصوصة و استوفيت ما أمكنني استيفاؤه من الديون التي كانت لي و أوصلت ذلك إلى متعددين من العلماء الأعلام من طرف الإمام علیه السلام لكن لم يف بما كان علي منه بل بقي على مقدار عشرين تومانا فعزمت على إيصال ذلك إلى أحد علماء مشهد الكاظمين.
فلما رجعت إلى بغداد أحببت أداء ما بقي في ذمتي على التعجيل و لم يكن عندي من النقد شي‏ء فتوجهت إلى زيارة الإمامين علیهما السلام في يوم خميس و بعد التشرف بالزيارة دخلت على المجتهد دام توفيقه و أخبرته بما بقي في ذمتي من مال الإمام علیه السلام و سألته أن يحول ذلك علي تدريجا و رجعت إلى بغداد في أواخر النهار حيث لم يسعني لشغل كان لي و توجهت إلى بغداد ماشيا لعدم تمكني من كراء دابة.
فلما تجاوزت نصف الطريق رأيت سيدا جليلا مهابا متوجها إلى مشهد الكاظمين علیهما السلام ماشيا فسلمت عليه فرد علي السلام و قال لي: يا فلان! و ذكر اسمي لم لم تبق هذه الليلة الشريفة ليلة الجمعة في مشهد الإمامين. فقلت: يا سيدنا عندي مطلب مهم منعني من ذلك فقال لي ارجع معي و بت هذه الليلة الشريفة عند الإمامين علیهما السلام و ارجع إلى مهمك غدا إن شاء الله.
فارتاحت نفسي إلى كلامه و رجعت معه منقادا لأمره و مشيت معه بجنب نهر جار تحت ظلال أشجار خضرة نضرة متدلية على رءوسنا و هواء عذب و أنا غافل عن التفكر في ذلك و خطر ببالي أن هذا السيد الجليل سماني باسمي مع أنه لم أعرفه ثم قلت في نفسي لعله هو يعرفني و أنا ناس له.
ثم قلت في نفسي إن هذا السيد كأنه يريد مني من حق السادة و أحببت أن أوصل إلى خدمته شيئا من مال الإمام الذي عندي فقلت له يا سيدنا عندي من حقكم بقية لكن راجعت فيه جناب الشيخ الفلاني لأؤدي حقكم بإذنه‏ و أنا أعني السادة فتبسم في وجهي و قال نعم و قد أوصلت بعض حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف أيضا و جرى على لساني أني قلت له ما أديته مقبول فقال نعم ثم خطر في نفسي أن هذا السيد يقول بالنسبة إلى العلماء الأعلام وكلائنا و استعظمت ذلك ثم قلت العلماء وكلاء على قبض حقوق السادة و شملتني الغفلة.
ثم قلت: يا سيدنا! قراء تعزية الحسين علیه السلام يقرءون حديثا أن رجلا رأى في المنام هودجا بين السماء و الأرض فسأل عمن فيه فقيل له فاطمة الزهراء و خديجة الكبرى فقال إلى أين يريدون فقيل زيارة الحسين علیه السلام في هذه الليلة ليلة الجمعة و رأى رقاعا تتساقط من الهودج مكتوب فيها أمان من النار لزوار الحسين علیه السلام في ليلة الجمعة هذا الحديث صحيح؟ فقال علیه السلام: نعم زيارة الحسين علیه السلام في ليلة الجمعة أمان من النار يوم القيامة.
قال و كنت قبل هذه الحكاية بقليل قد تشرفت بزيارة مولانا الرضا ع فقلت له يا سيدنا قد زرت الرضا علي بن موسى علیه السلام و قد بلغني أنه ضمن لزواره الجنة هذا صحيح؟ فقال علیه السلام: هو الإمام الضامن. فقلت: زيارتي مقبولة. فقال علیه السلام: نعم مقبولة.
و كان معي في طريق الزيارة رجل متدين من الكسبة و كان خليطا لي و شريكا في المصرف فقلت له يا سيدنا إن فلانا كان معي في الزيارة زيارته مقبولة فقال نعم العبد الصالح فلان بن فلان زيادته مقبولة ثم ذكرت له جماعة من كسبة أهل بغداد كانوا معنا في تلك الزيارة و قلت: إن فلانا و فلانا و ذكرت أسماءهم كانوا معنا زيارتهم مقبولة؟ فأدار علیه السلام وجهه إلى الجهة الأخرى و أعرض عن الجواب فهبته و أكبرته و سكت عن سؤاله.
فلم أزل ماشيا معه على الصفة التي ذكرتها حتى دخلنا الصحن الشريف ثم دخلنا الروضة المقدسة من الباب المعروف بباب المراد فلم يقف على باب الرواق و لم يقل شيئا حتى وقف على باب الروضة من عند رجلي الإمام موسى‏ علیه السلام فوقفت بجنبه و قلت له: يا سيدنا! اقرأ حتى أقرأ معك. فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أمير المؤمنين و ساق على باقي أهل العصمة علیهم السلام حتى وصل إلى الإمام الحسن العسكري علیه السلام.
ثم التفت إلي بوجهه الشريف و وقف متبسما و قال: أنت إذا وصلت إلى السلام على الإمام العسكري ما تقول؟ فقلت: أقول السلام عليك يا حجة الله يا صاحب الزمان قال فدخل الروضة الشريفة و وقف على قبر الإمام موسى علیه السلام و القبلة بين كتفيه.
فوقفت إلى جنبه و قلت: يا سيدنا زر حتى أزور معك. فبدأ علیه السلام بزيارة أمين الله الجامعة المعروفة فزار بها و أنا أتابعه ثم زار مولانا الجواد علیه السلام و دخل القبة الثانية قبة محمد بن علي علیه السلام و وقف يصلي فوقفت إلى جنبه متأخرا عنه قليلا احتراما له و دخلت في صلاة الزيارة فخطر ببالي أن أسأله أن يبات معي تلك الليلة لأتشرف بضيافته و خدمته و رفعت بصري إلى جهته و هو بجنبي متقدما علي قليلا فلم أره.
فخففت صلاتي و قمت و جعلت أتصفح وجوه المصلين و الزوار لعلي أصل إلى خدمته حتى لم يبق مكان في الروضة و الرواق إلا و نظرت فيه فلم أر له أثرا أبدا ثم انتبهت و جعلت أتأسف على عدم التنبه لما شاهدته من كراماته و آياته من انقيادي لأمره مع ما كان لي من الأمر المهم في بغداد و من تسميته إياي مع أني لم أكن رأيته و لا عرفته و لما خطر في قلبي أن أدفع إليه شيئا من حق الإمام علیه السلام و ذكرت لي أني راجعت في ذلك المجتهد الفلاني لأدفع إلى السادة بإذنه قال لي ابتداء منه نعم و أوصلت بعض حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف.
ثم تذكرت أني مشيت معه بجنب نهر جار تحت أشجار مزهرة متدلية على رءوسنا و أين طريق بغداد و ظل الأشجار الزاهرة في ذلك التأريخ و ذكرت أيضا أنه سمي خليطي في سفر زيارة مولانا الرضا باسمه و وصفه بالعبد الصالح و بشرني‏ بقبول زيارته و زيارتي ثم إنه أعرض بوجهه الشريف عند سؤالي إياه عن حال جماعة من أهل بغداد من السوقة كانوا معنا في طريق الزيارة و كنت أعرفهم بسوء العمل مع أنه ليس من أهل بغداد و لا كان مطلعا على أحوالهم لو لا أنه من أهل بيت النبوة و الولاية ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق.
و مما أفادني اليقين بأنه المهدي علیه السلام أنه لما سلم على أهل العصمة علیهم السلام في مقام طلب الإذن و وصل السلام إلى مولانا الإمام العسكري التفت إلي و قال لي: أنت ما تقول إذا وصلت إلى هنا فقلت أقول السلام عليك يا حجة الله يا صاحب الزمان فتبسم و دخل الروضة المقدسة ثم افتقادي إياه و هو في صلاة الزيارة لما عزمت على تكليفه بأن أقوم بخدمته و ضيافته تلك الليلة إلى غير ذلك مما أفادني القطع بأنه هو الإمام الثاني عشر صلوات الله عليه و على آبائه الطاهرين‏ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و ينبغي أن يعلم أن هذا الرجل و الرجل المتقدم ذكره في القصة السابقة هما من السوقة و قد حدثاني بهذين الحديثين باللغة المصحفة التي هي لسان أهل هذا الزمان فاللفظ مني مع المحافظة التامة على المعنى فهو حديث بالمعنى و كتب أقل أهل العلم محمد بن أحمد بن الحسن الحسيني الكاظمي مسكنا.
قلت: ثم سألته أيده الله تعالى عن اسمه و حدثني غيره أيضا أن اسمه الحاج علي البغدادي و هو من التجار و أغلب تجارته في طرف جدة و مكة و ما والاها بطريق المكاتبة و حدثني جماعة من أهل العلم و التقوى من سكنة بلدة الكاظم علیه السلام بأن الرجل من أهل الصلاح و الديانة و الورع و المواظبين على أداء الأخماس و الحقوق و هو في هذا التأريخ طاعن في السن‏ «2» أحسن الله عاقبته.

(الجنة المأوی؛ للمحدث النوری [1254 – 1320 ق])
______________________________
(1) و من عجيب الاتفاق أنى لما اشتغلت بتأليف هذه الرسالة صادف أيّام الزيارة المخصوصة فخرجت من سامرّاء و لما دخلت بلد الكاظمين عليهما السلام نزلت على جنابه سلمه اللّه فسألته عما عنده من تلك الوقائع، فحدّثني بهذه الحكاية.
(2) يقال: طعن في السن: شاخ و هرم.