المکارم التی تحصل بالدعاء للامام المهدی – أنه سبب فزع الشيطان اللعين وتباعده عن الداعي بنحو اليقين، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: العقل، وتقريره أنه لا ريب في أن هذا العمل الشريف عبادة نفيسة توجب كمال الإيمان والقرب إلى الله عزّ وجلّ، وكلّما كمل إيمان المؤمن وازداد قربه من الله عز اسمه ازداد الشيطان عنه بعدا ونفورا وليس ذلك إلا لميل كل شئ إلى ما هو من سنخه وجنسه، فكما أن الإنسان كلما كمل في مراتب العبادة والاجتهاد في الطاعة، وكسب الأخلاق الحسنة قرب من عالم الملكوت وانكشف له ما لا ينكشف لغيره.

ولذلك ورد في الحديث: لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء. كذلك يبعد عن الهواجس الشيطانية، والوساوس النفسانية، والشهوات الحيوانية ويبعد عنه الشيطان المغوي، والهوى المردي، حتى يبلغ الدرجة المذكورة.
في الحديث القدسي، المروي عن الصادق (عليه السلام) في أصول الكافي: ما تقرب إلي عبد بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته. الخبر.
قد اختلج بالبال في توضيح هذا المقال وجهان:
الأول: أن يكون المراد أن العبد إذا بلغ تلك الدرجة العليا والمرتبة القصوى لم يكن همه إلا الله تعالى، وذهل عن ما سواه، وذكر السمع والبصر واللسان من باب المثال، يعني لا يريد شيئا إلا الله، فهو سمعه وهو بصره، … .
وهذا هو الذي أشار إليه سيد الساجدين، وإمام العارفين، علي بن الحسين (عليه السلام) في المناجاة حيث يقول: فقد انقطعت إليك همتي، وانصرفت نحوك رغبتي فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي، … .
والثاني: أن يكون المراد، أن العبد إذا كان بتلك المنزلة، حصل له ما أراد، ولم يحجب عنه شئ فمعنى كون الله تعالى سمعه وبصره ويده أنه يسمع كل ما يمكن أن يسمع، ويبصر كل ما يمكن أن يبصر، ويفعل كل ما يريد فهو يسمع ما لا يسمعه غيره ويبصر ما لا يبصره غيره، ويفعل ما لا يقدر عليه غيره. وهذا من الصفات الربانية التي يعطيها الله عزّ وجلّ إيّاه حبّا له ولهذا قيل: إن العبد إذا أطاع الله تعالى أطاعه كل شئ.
ويؤيد هذا المعنى قوله عزّ وجلّ: “إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته”.
وفي اللئالي حكى أن إبراهيم بن أدهم قال: مررت براعي غنم، فقلت هل عندك شربة ماء أو من لبن؟ قال: نعم أيّهما أحبّ إليك؟ قال: قلت: الماء. فضرب بعصاه حجرا صلدا لا صدع فيه فانبجس الماء منه فإذا هو أبرد من الثلج وأحلى من العسل فبقيت متعجبا قال الراعي: لا تتعجب، فإن العبد إذا أطاع مولاه أطاعه كل شئ.
ثمّ إني بعد ما ألهمت هذين الوجهين بفضل الله تعالى وإفاضته رجعت إلى شرح الأربعين للشيخ المحقق العارف البهائي (رحمه الله) وشرح أصول الكافي للعالم الرباني المولى صالح المازندراني ومرآة العقول للعلامة المجلسي الثاني (رحمه الله) فوجدت في كلام الأولين ما يرجع إلى أول الوجهين، وفي كلام الثالث ما يرجع إلى الوجه الثاني. وقد ذكر العلامة المجلسي (رحمه الله) وجوها غير ذلك، وهي أيضا ترجع إلى أحد ذينك الوجهين عند التأمّل التّام وإن تفاوتت المسالك والأفهام ولا يخفى أن هذا المقام من مزال الأقدام، والله العاصم وهو ولي الأنام.
وبما ذكرناه اتضح معنى قوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) * فإن الظاهر – والله العالم – أن هذا الكلام بيان لأمرين، ثانيهما أعلى من الأول.
وأولهما: أن الصلاة لما كانت معراجا للمؤمن، وسببا لقرب العبد من الله عزّ وجلّ إذا أداها العبد على النحو الذي أمر الله تعالى به كانت سببا لتباعد الشيطان عن صاحبها ولازم ذلك انتهاؤه عن الفحشاء والمنكر كما لا يخفى على من استبصر ويدلّ على هذا روايات عديدة:
منها: ما في مجمع البيان عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.
يعني أنه لم يؤد الصلاة حق أدائها، فلذلك لم يظهر عليه أثرها، والله العالم.
ومنها: ما في الوسائل عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصلوات الخمس فإذا ضيعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم.
وهكذا الحال في كل عبادة يأتي بها المؤمن على الوجه الذي أمر الله تعالى به فإن اقتضاء العبادة لله عزّ وجلّ القرب منه، ولازمه تباعد الشيطان، وهذا ظاهر بالوجدان ومشاهد بالعيان. ثمّ لا يخفى أنّه كلّما كانت العبادة في نظر الشارع أهم وأعظم، كان ذلك الاقتضاء فيها أكمل وأتم مثل الصلاة، والولاية، والزكاة، وقراءة القرآن، والدعاء بتعجيل فرج صاحب الزمان، وأمثالها وكذلك كلما كان أجمع لشرائط القبول كان أسرع وأكمل في حصول هذا الأمر المعقول وبهذا البيان ظهر سببية الدعاء بتعجيل فرج مولانا صاحب الزمان لتباعد الشيطان بالدليل والبرهان.
الأمر الثاني من الأمرين اللذين بينهما الله عز وجل في الآية الشريفة، وهو أعلى من الأول، بل هو غاية الغايات وأعلى العنايات، وهو محض ذكر الله وذكر الله المحض والإعراض والذهول عمّا في السماوات والأرض وهو يحصل بصرف العبد جميع آنات عمره في عبادة الله، صارفا نظره عن كل ما سواه، بأن لا يذكره إلا لأنه ذكره، فهو مطلوبه لا غير من دون التفات إلى شئ آخر من شر أو خير.
وهذا الذي أشار إليه سيد العابدين (عليه السلام) في مناجاته المتقدمة، وفي غيرها من كلماته النافعة الجامعة فإذا أتى العبد بصلاته تامة كاملة بحقيقتها، التي ينبغي أن يؤتى بها، تباعد الشيطان عنه، بنحو لا يقرب منه أبدا. ولقد ذاكرني بعض العلماء المعاصرين يوما في معنى الحديث الوارد، بأن للصلاة أربعة آلاف حد. فقلت: إن عدد المعاصي أربعة آلاف على ما نقل عن بعض علمائنا، فيمكن أن يكون المراد أن هذه حدود لا يتعدى عنها من أدى الصلاة بحقيقتها، يعني أن الدليل على أداء حقيقة الصلاة هو الاجتناب عن جميع تلك السيئات، فمن لم ينته عنها، لم يأت بحقيقة الصلاة وتجاوز عن حدود الله فاستحسن هذا الجواب، والله الهادي إلى نهج الصواب.
ويشهد لهذا الوجه الذي ذكرته بعون الله تعالى ما مر في الحديث النبوي عن مجمع البيان.
وفيه أيضا عن ابن مسعود، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة وطاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء والمنكر.
قال الشيخ الطبرسي روح الله روحه: ومعنى ذلك أن الصلاة إذا كانت ناهية عن المعاصي، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله بها فإن تاب من بعد ذلك، وترك المعاصي، فقد تبين أن صلاته كانت نافعة له ناهية، وإن لم ينته إلا بعد زمان قال.
وروى أنس أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويرتكب الفواحش، فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن صلاته تنهاه يوما.
وعن جابر قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إن فلانا يصلي بالنهار، ويسرق بالليل؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إن صلاته لتردعه.
قال وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبّل؟ فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه. إنتهى.
إنما نقلت تمام هذا الكلام لدفع ما ربما يسبق إلى بعض الأوهام في مثل هذا المقام، حتّى لا يقول معترض لو كان الدعاء في هذا الأمر سببا لتباعد الشيطان، لم يصدر سيئة عن كثير من أفراد الإنسان، لدعائه بتعجيل فرج صاحب الزمان، لأنا نقول: إن هذا الأمر الشريف نظير الصلاة فجميع ما ذكرناه ثمة جار هناك والإشارة كافية لأهل الإدراك.
الوجه الثاني: من الدليل لاقتضاء هذا الدعاء تباعد الشيطان عن الداعي بتعجيل فرج صاحب الزمان، النقل:
وهو ما روي في الأمالي للشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: ألا أخبركم بشئ إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا بلى، قال: الصوم يسود وجهه والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والموازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه، ولكل شئ زكاة وزكاة الأبدان الصيام.
وجه دلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب يتوقف على ذكر مقدّمة وهي أن للحبّ درجات ومراتب ولكلّ مرتبة من تلك المراتب أثر وفائدة للمؤمن الراغب فأول الدرجات هو الحب القلبي الذي يعبر عنه في الفارسية ب‍ (دوست داشتن) وهذه المرتبة هي التي يتوقف عليها الإيمان، والفوز برحمة الرحمن، والدخول في الجنان، فلو لم يقدر عبد على إظهار ما في قلبه من حب ربه وأوليائه (عليهم السلام) لكفاه بنص القرآن *(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)* وينبعث من هذه المرتبة آثار شتى، بحسب استعدادات العبد وهي أفراد المرتبة الثانية، التي هي فرع المرتبة الأولى، ويعبر عنه في الفارسية ب‍ (دوستي كردن) وفي العربية بالتحابب والمودة ونحوهما، وقد يعبر عنه بالحب في الله. وقد ورد في فضل التحابب والموادة أحاديث عديدة، ذكرها يوجب التطويل ولكل مرتبة من مراتبه آثار جميلة، وفوائد جليلة، ومن جملة تلك الآثار الشريفة ما ذكر في تلك الرواية اللطيفة، وهو تباعد الشيطان عن الإنسان، وهذا من أعظم أنواع الإحسان، من الخالق المنان.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد من الحب في الله، بقرينة قوله (صلى الله عليه وآله): إن أنتم فعلتموه، الظاهر في إرادة الأفعال البدنية الإنسانية هو التحابب والموادة، يعني إظهار المحبة القلبية إلى ذوي العقائد الدينية، بما يصدر من الأفعال البدنية. ولا ريب أن أعظم أهل الإيمان وهو مولانا صاحب الزمان أولى بإظهار الحب إليه من جميع أفراد الإنسان، فثمرة التحابب وهو بعد الشيطان، تحصل بالدعاء لتعجيل فرج مولانا صاحب الزمان، أسرع من حصوله بالموادة لغيره كائنا من كان، وهكذا الحال في الموادة له بغير الدعاء من أقسام الموادة والموالاة وكذا الموالاة والموادة للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين وصلحاء المؤمنين درجات بعضها فوق بعض والله سميع عليم.

(مکیال المکارم ؛ ج 1 ؛ محمد تقی الموسوی الاصبهانی)